الجمعة، 14 أغسطس 2009

هل الحياة والعقل والكون مجرد كومبيوترات؟


التناقض لا يشكل معلومة

هل الحياة والعقل والكون مجرد كومبيوترات؟


حسن عجمي

تسيطر اليوم النظرية التي تقول إن الحياة والعقل والكون مجرد كومبيوترات متطورة. فمثلاً يعتبر الفيزيائي إربك باوم أن العقل والحياة هما عملية تنفيذ لبرامج قائمة في حمضنا النووي الموروث أي ال DNA. فكما يعتمد الكومبيوتر على على برامج معينة في تحقيق حساباته وتدفق معلوماته، كذلك تعتمد الحياة والعقل على برامج معينة تشكلها وتحكم تدفق معلوماتها. كما أن الحمض النووي ليس سوى مجموعة معلومات تكون عقولنا واجسامنا الحية، لكن البرامج الكومبيوترية ليست سوى معلومات تحدد تصرفات الكومبيوتر، وبذلك الحياة والعقل هما برامج كومبيوترية متطورة . والعديد من علماء البيولوجيا يدرسون النظام البيولوجي على أنه آلة معلوماتية وظيفتها الأساسية حفظ المعلومات وحسابها وتنفيذ أوامرها. فمثلاً، بالنسبة إليهم أدمغتنا ليست سوى كومبيوترات تسيطر على أجسامنا. هكذا الإنسان آلة كومبيوترية،ولذا من الممكن صناعة آلات شبيهة بالإنسان تماماً، بحيث ترى وتشعر وتفكر مثلنا. أما عالم الهندسة الكمية سيث لويد فيؤكد على أن الكون كومبيوتر متطور بالنسبة إليه، وكل نظام فيزيائي عبارة عن عملية حساب للمعلومات لكن الكومبيوتر هو أيضاً يتكون من عمليات حسابية تحسب المعلومات. من هنا يستنتج لويد أن الكون مجرد كومبيوتر متطور. فكل جسيم في العالم يحتوي على معلومات ويتشكل منها تماماً كالكومبيوتر.
Eric Baum What is Thought? 2004. The MIT Press. Seth
Lloyd : Programming The Universe 2007. Vintage Book. Richard Dawkins. Modern Science Writing 2008. Ox ford University Press.

لكن ماهو هذا الكومبيوتر المتطور الذي من خلاله يصف العلماء الكون والعقل والحياة؟ لابد أن يتصرف هذا الكومبيوتر كما يتصرف الكون والعقل والحياة،
وإلا لا فائدة منه؛ فإذا تصرف مثلاً كالحجارة فلن نستفيد منه حقاً. من هنا يسعى العلماء إلى بناء كومبيوتر متطور له صفات الكون والعقل والحياة. وبذلك هذا الكومبيوتر المتطور هو الكومبيوتر الذي يملك الصفات والتصرفات ذاتها التي يملكها الكون والعقل والحياة هذا يرينا أن الكومبيوتر المتطور يتم تحليله من خلال مفاهيم الحياة والعقل والكون. لكن الإتجاه الفكري السابق يحلل الكون والحياة والعقل من خلال الكومبيوتر المتطور. من هنا يقع الإتجاه السابق في الدور، وهو تحليل الشيء بالشيء ذاته كتعريف الماء بالماء، فهو يعرف الكون والحياة والعقل من خلال الكومبيوتر المتطور. لكن الكومبيوتر المتطور معرف من خلال الكون والحياة والعقل، وبذلك تم تحليل الكون والحياة والعقل من خلال المفاهيم ذاتها، وبذلك سقط الإتجاه الفكري السابق في الدور المرفوض منطقياً. هكذا يفشل تحليل الكون والعقل والحياة على أنها كومبيوترات. بالإضافة إلى ذلك يواجه النموذج السابق مشكلة أساسية أخرى هي التالية: بالنسبة إليه، الكون والحياة والعقل مجرد معلومات وتدفقها وبذلك كل الأشياء مجرد برامج كومبيوترية. ولكن ماهي المعلومات؟ ما الذي يجعل هذا الشيء أو ذاك معلومة بدلاً من معلومة؟ لا بد من تعريف ماهي المعلومات لنتمكن من تميزها عما ليس بمعلومات ليحق لنا حينها أن نعرف الأشياء كالكون والحياة والعقل على أنها معلومات. فلو أننا حللنا الكون والحياة والعقل على أنها معلومات، ولم تعرف ماهي المعلومات، حينها لن نكون قد قدمنا إيضاحاً لها هو الكون والحياة والعقل، بل سنقع في حيرة أكبر، ألا وهي مشكلة معرفة ما هي المعلومات. من هنا من الخطأ إعتبار المعلومة مفهوماً أولياً لا يحتاج إلى تحليل، وعلى ضوءها يتم تحليل المفاهيم الأخرى كالكون والعقل والحياة. فمفهوم (المعلومة) اكثر غموضاً من مفاهيم الكون والحياة والعقل. ومن دون تعريف معنى مدلول (المعلومة) لن ننجح في تحديد هويتها، لكن لا يوجد شيء من دون هوية. لذا نحتاج بشدة إلى تعريف ماهي المعلومة كي يحق لنا تحليل الأمور الأخرى على ضوءها.
توجد أشياء تشكل معلومات وأشياء أخرى لاتشكل معلومات لذا لابد من تعريف ماهي المعلومات. فمثلاً، التناقض لا يشكل معلومة أو معلومات، لأنه تناقض يتضمن القضية ونقيضها فلا يفيدنا في تقديم أية معلومة. على أساس كل هذا، لابد من معرفة ماهي المعلو
مة وكيف تختلف عما هو ليس بمعلومة. ولكن إذا عرفنا الكون وكل ما فيه من أشياء وأحداث وحياة وعقول على أنها مجموعات من معلومات. حينها نكون قد عرفنا كل الأشياء من خلال المعلومات وبذلك لا مجال لدينا كي نعرف المعلومات من خلال أي شيء آخر. هكذا نقع في مشكلة عدم مقدرتنا على تقديم أي تعريف لمفهوم المعلومة. وبذلك نفشل في تحليل كل الأشياء، كالعقل والحياة والكون، من خلال المعلومات التي لانملك تحليلاً لها. من هنا من الخطأ تعريف الكون والعقل والحياة على أنها مجرد معلومات، فبرامج كومبيوترية. بل الأصدق أن نحلل المعلومة من خلال مفاهيم الكون والعقل والحياة. مثل ذلك أن أي شيء يشكل معلومة، فقط في حال كان جزاً من الكون أو من الحياة أو العقل في هذه الحالة، التناقض لا يشكل معلومة لأنه لا يتحقق في الكون والحياة والعقل كونه تناقضاً. هكذا ينجح التحليل السابق للمعلومة في التعبير عن حقيقة التناقض ليس معلومة وبذلك يكتسب هذا التحليل للمعلومة قدرته التعبيرية فمقبوليته. خلاصة القول هي أنه من الخطأ تحليل الكون وكل ما فيه من عقول وحياة أشياء وأحداث، على أنها معلومات، بل الموقف الأصح هو أنه لابد من تحليل المعلومات من خلال الكون والعقل والحياة.









الأحد، 9 أغسطس 2009

جدل وخلاف بين كبار الفيزيائيين


سيرة أفكار روجر بنروز و ستيفن هوكنغ

جدل وخلاف بين كبار الفيزيائيين




حسن عجمي

روجر بنروز فيزيائي وعالم رياضيات وفيلسوف. أنتج فرضية الرقابة الكونية، التي تقول إن الكون يحمينا من اللامتوقعات القائمة في قلب الثقوب السوداء من خلال إخفائها عنا خلف أفق الحدث Event horizon. لقد اهتم بنروز بدراسة النظرية النسبية لأينشتاين، ما ساهم بقوة في تعميق فهمنا حول الثقوب السوداء. وأصدر عدداً من الكتب المثيرة حول علاقة الفيزياء بالوعي الإنساني. فكرته الأساسية هي أن قوانين الفيزياء المعروفة لاتنجح في تفسير ظاهرة الوعي، فأصر على وجوب خلق فيزياء جديدة قادرة على ذلك . بالنسبة إلى بنروز، الكومبيوتر ليس عقلاً لأنه نظام حتمي يعمل على ضوء الحسابات المحددة، على نقيض من العقل. يقول إن العقل الإنساني ليس حسابياً بشكل
كامل، وبذلك يستحيل تقليده من قبل كومبيوتر معقد. على هذا الأساس يستنتج بنروز أن العقل ليس (كومبيوترا). ومن منطلق شكه بصدق ميكانيكا الكم كونها تصور الكون على أنه غير حتمي، يطالب بنروز بصياغة نظرية علمية جديدة توحد بين النظرية النسبية لأينشتاين ونظرية ميكانيكا الكم وتتجنب مشكلة لاحتمية الكون.
أما ستيفن هوكنغ فهو فيزيائي وعالم رياضيات وفيلسوف. اشتهر باضافاته العلمية القيمة في ميادين الكوزمولوجيا
والجاذبية الكمية وخاصة في دراسة الثقوب السوداء. ولقد عمل مع روجر بنروز على دراسة الثقب الأسود، وإيضاح خصائصه من منطلق نظرية النسبية لأينشتاين. كما طرح هوكنغ نظرية علمية تقول، إن الثقوب السوداء تبث الإشعاعات على نقيض مما كان يعتقد سابقاً، وهذه الإشعاعات اسمها إشعاعات (هوكنغ). بلإضافة إلى ذلك،صاغ هوكنغ مع الفيزيائي هرتل نظريته، أن الكون لايملك حدوداً في المكان والزمان، بل هو كسطح الأرض. فسطح الأرض لاحدود له أي لايبدأ من نقطة ولا ينتهي في أخرى. هكذا الكون لا بداية له ولا نهاية. الكون كالكرة بلا نقطة بداية ولا نقطة نهاية ما يتضمن عدم الحاجة إلى ماهو خارجه ليبدأ خلقه.
Stephen Hawking : The Universe in a Nutshell.2001. Bantam Book. & Stephen Hawking: A Briefer History of Time. 2005. Bantam Books.

طبيعة العلم ونظرياته


يتضح موقف روجر بنروز حول طبيعة العلم على ضوء الجدل الذي دار بينه وبين ستيفن هوكنغ أكد هذا الجدل، الخلاف الجوهري بينهما، فبينما يعتقد بنروز بصدق المذهب الواقعي، يتفق هوكنغ مع الموقف (ليس بالمعنى السلبي). بالنسبة إلى الواقعية. العالم موجود بشكل مستقل عنا، ولابد أن تكون النظريات العلمية مطابقة للواقع كما هو. أما المذهب اللاواقعي فيقول إن النظريات العلمية ليست صادقة ولا كاذبة، بل هي فقط مقبولة لكونها مجرد أدوات للتنبؤ بالظواهر الطبيعية. على هذا الأساس يعبر بنروز عن قلقة حول نظرية ميكانيكا الكم. فهو يطالب النظرية العلمية أن تكون صادقة، بمعنى أن تطابق الواقع لكن بالنسبة إلى نظرية ميكانيكا الكم، الواقع غير المحدد، فقطة شرودنغر حية وميتة في الوقت ذاته، وبذلك يستحيل عليها أن تطابق الواقع، وإلا أمسى الواقع متناقضاً. أما هوكنغ فلا تقتله نظرية ميكانيكا الكم لأن النظريات العلمية بالنسبة له أدوات للتنبؤ بما بما يحدث وتنجح ميكانيكا الكم في هذا كل النجاح. هكذا يصور بنروز العلم على أنه الصادق المطابق لواقع مستقل عنا، وعن إدراكاتنا، بينما يكتفي هوكنغ بقبول العلم كأداة للتفسير والتنبوء من دون أن يطالب العلم بمطابقة الواقع المستقل
عنا. لذا لا يرضى بنروز عن ميكانيكا الكم بينما يرضى هوكنغ عنها.
Stephen Hawking and Roger Penrose: The Nature of Space and Time. 1996 . Princeton University Press.

من حجج بنروز على صدق موقفه الواقعي، وعدم رضاه عن ميكانيكا الكم الحجة التالية: يقول إنه لابد من تفسير لماذا ندرك الواقع كما ندركه، أي لابد من تفسير لماذا ندرك القطة على أنها إما حية وإما ميتة. لكن ميكانيكا الكم تصر على أنها حية وميتة في الوقت نفسه. من هنا يستنتج بنروز ضعف ميكانيكا الكم. ويشبه بنروز خلافه مع هوكنغ بالخلاف الذي اشتهر بين أينشتاين وبوهر. فموقف بنروز يتفق مع أينشتاين الذي رفض ميكانيكا الكم، بسبب قولها، إن الكون غير حتمي، بينما موقف هوكنغ يتفق مع موقف بوهر القائل،إن العلم مجرد أداة مفيدة في التفسير والتنبؤ، ما دعى بوهر إلى قبول ميكانيكا الكم. لكن بنروز يؤكد كما يؤكد أينشتاين، على أنه يوجد عالم حقيقي بل واقع حتمي لابد أن
تعبر عنه نظرياتنا العلمية وهنا تفشل ميكانيكا الكم (المرجع السابق).

جدل العقل والكومبيوتر


بنروز واقعي يؤمن بوجود عالم فريد من الأفكار يصف الواقع الفيزيائي. لكن هوكنغ يعتقد أن النظريات الفيزيائية مجرد نماذج رياضية وبناءات عقلية نحن من يبنيها، وبذلك سؤالنا عما إذا كانت النظريات مطابقة للواقع هو سؤال بلامعنى، ويحق لنا فقط أن نسأل، ما إذا كانت النظريات تفسر الظواهر الطبيعية وتتنبأ بها. ينتقل هذا الخلاف بين بنروز وهوكنغ إلى ميدان العقل وعلاقته بالكومبيوتر. فبما أن النظرية العلمية بالنسبة إلى بنروز لابد أن تطابق الواقع بدلاً من أن تكون مجرد نموذج ناجح في تفسيره، إذاً نجاح الكمبيوتر في التشبه بالعديد من صفات العقل، وهذا لا يدلنا بحق على أن العقل فعلاً (كومبيوتراً). من هنا، من الطبيعي أن يرفض بنروز نظرية أن العقل مجرد كومبيوتر. لكن بما أن النظرية العلمية مجرد نموذج رياضي ناجح في تفسير الظواهر والتنبؤ بها وليس من المطلوب من النظرية العلمية أن تطابق الواقع بالنسبة إلى هوكنغ، إذن من الطبيعي أن يقبل هوكنغ نظرية، أن العقل كومبيوتر متطور على ضوء إمكانية نجاح الكومبيوتر المتطور في التشبه بوظائف العقل جميعها. هكذا هو خلافهما الأساسي حول طبيعة العلم ونظرياته ينتقل إلى خلاف حول ما إذا كان العقل كومبيوتراً متطوراً أم لا. لايقدم روجر بنروز برهاناً أساسياً على صدق موقفه القائل، بأن العقل ليس كومبيوتراً إنما هو التالي: بالنسبة إلى نظرية غودل في الريا
ضيات توجد في كل نظام رياضي عبارات صادقة من غير الممكن البرهنة على صدقها، وبذلك لاتخضع لعمليات حسابية . من هنا يستنتج أن العقل غير حسابي؛ فلو أنه حسابي ماكان ليكوٌِِن ويعتقد بأي نظام رياضي متشكل من بعض العبارات التي يستحيل حسابها أي البرهنة عليها حسابياً. وبما ان العقل ليس حسابياً، بينما الكومبيوتر حسابي (أي يعتمد على مبادئ معينة لا يحيد عنها وفقط على ضوئها يتصرف) إذاً يستنتج بنروز أن العقل ليس كومبيوتراً.
Roger Penrose: The Large , The Small and The Human Mind. 1997. Cambiridge University Press. & Roger Penrose: The Emperors New Mind. 1989. oxford University Press.

من جهة أخرى يرفض ستيفن هوكنغ حجة بنروز قائلاً أن نظرية غودل في الرياضيات غير مرتبطة بقضية ما إذا كان العقل كمبيوتراً أم لا. وبرهان هوكنغ على ذلك، أن العقل نشأ نتيجة الانتقاء الطبيعي الدارويني، فوظيفته أن يجعلنا نتجنب الضرر وأن نتولد. أي وظيفة القيام بالحسابات الرياضية. من هنا يستنتج هوكنغ أن نظرية غودل غير متعلقة بمسألة ماهية العقل، وما إذا كان كومبيوتراً أم لا، وبذلك يؤكد هوكنغ على فشل البرهان الأساسي لبنروز، فيضيف أنه لاتوجد حجة لرفض فكرة أن العقل من الممكن أن يكون مجرد كومبيوتر متطور. لكن بنروز لايسكت فيرد على نقد هوكنغ على النحو التالي: بالفعل الانتقاء الطبيعي الدارويني يشير بقوة إلى أن العقل لم يتم اختياره من أجل القيام بالحسابات الرياضية، بل تم انتقاء العقل من أجل وظيفة الفهم. والفهم غير حسابي، ولذا يمكننا فهم اشياء غير حسابية، كأن نفهم النظام الرياضي من دون أن نتمكن من حساب صدق كل عباراته. هكذا الفهم ليس حسابياً على نقيض من الكومبيوتر (المرجعان السابقان).
يستمر الجدل والخلاف بين بنروز وهوكنغ وينقسم العلماء بين موقفيهما، بما أن العلم عملية تصحيح مستمرة فلا يقينيات في العلم. لكن لماذا يختلف العلماء ويتجادلون حول معظم القضايا العلمية؟ تجيب السوبر حداثة قائلة: إنه من غير المحدد ما هو العلم، وما طبيعته كما من غير المحدد أية نظرية علمية هي النظرية الصادقة، لذا من الطبيعي أن يكون العلم عملية تصحيح مستمرة، وأن يختلف العلماء حول معظم القضايا العلمية. هكذا تنجح السوبر حداثة في تفسير طبيعة ما يحدث في العلم من جدل واختلاف، فتكتسب بذلك مقبوليتها
.








الاثنين، 3 أغسطس 2009

السوبر تخلف


السوبر تخلف

حسن عجمي

نحن سوبر متخلفون لاننا نرفض العلم والمنطق ونستخدم العلوم من أجل التجهيل. ثمة فرق شاسع بين التخلف والسوبر تخلف. الشعب المتخلف هو الشعب الذي لا ينتج ما هو مفيد للعالم والبشرية، بينما الشعب السوبر متخلف فهو الذي يطور التخلف من خلال الاستعانة بالعلم من أجل نشر الجهل. وهذا ما نقوم به بالضبط.
تختلف الأمثلة هنا وتتنوع. فمثلاً ،نعتمد على أقوال العلماء والمفكرين الغربيين من أجل تبرير وجود أنظمتنا الدكتاتورية، وإقتتالنا الداخلي المستمر. مثال آخر استخدام العلم من أجل التجهيل هو التالي: معظم مدارسنا وجامعاتنا ووسائل إعلامنا وظيفتها الأساسية كامنة في نشر الكراهية والعداوة بين القبائل الطائفية والمذهبية المختلفة.
فلكل مذهب او طائفة مدارسها ومعاهدها وجامعاتها و وسائل إعلامها الخاصة التي تهدف إلى تعزيز عصبيتها وتمتين عداوتها تجاه القبائل المذهبية أو الطائفية الأخرى. هكذا يتجلى سوبر تخلفنا في أننا لا نشكل مجتمعاً؛ بل نحن قبائل متصارعة على الدوام. فالصفة الأساسية للقبائل هي أنها في صراع دائم. وبما أننا مجرد قبائل، اذاً من الطبيعي أن تحيا الحروب الأهلية بيننا. من هنا تتمكن أطروحة السوبر تخلف من تفسير لماذا تستمر حروبنا الأهلية ولا تزول.
فالشيعة قبيلة، والسنة قبيلة، والدروز قبيلة، والموارنة قبيلة أخرى إلخ, والمسيحيون الشرقيون قبيلة في مواجهة قبيلة المسلمين الشرقيين.
هكذا ليس من المستغرب أن نحيا،بل أن نموت باستمرار في صراعاتنا الداخلية الدائمة،كما ليس من المستغرب وجود قبيلة اليهود بيننا الممثلة ب (إسرائيل). بالفعل، بدلاً من أن تخرج مدارسنا وجامعاتنا مثقفين وعلماء تخرج إرهابيين صغاراً ينتمون إلى هذه القبيلة أو تلك.
يتجسد السوبر تخلف ايضاً في استخدام التكنولوجيا من أجل التجهيل، مثل ذلك أننا نستعمل الأنترنيت والراديو والتلفزيون وفضائياته كي ننشر كراهيتنا تجاه الآخر منا والآخر من الغرب.
فتحتشد فتاوى التكفير والتخوين على شاشات التلفزيون والأنترنيت في أجواء سمائنا الملعونة. وسبب ذلك أننا نرفض العلم. فمع زيادة التكنولوجيا ونقصان العلم يزداد التخلف. وهذا ما حدث لنا.
فالتكنولوجيا متاحة لنا،لكننا نرفض العلم ولا نشارك في إنتاجه، وبذلك من المتوقع يزداد التخلف وأن نفتتح عصر السوبر تخلف حيث التخلف هو القيمة الأعلى. فالكثر تخلفاً أكثر نجاحاً في هذا الزمن. كما أن السوبر تخلف يتجسد في أننا محددون سلفاً في أفكارنا ومشاعرنا وتصرفاتنا. فافعالنا وأفكارنا ومشاعرنا نسخ عما كان يفعل أجدادنا ويفكرون ويشعرون. هكذا نعيش في قبور أجدادنا.
بالإضافة إلى ذلك، من الأمثلة الواضحة على سوبر تخلفنا هو المثل التالي : معظم خطاباتنا وكتبنا ونصوصنا تحتوى على رفض صريح للمنطق ولا تعتمد على أي أسس علمية. فلا نجد كتاباً علمياً أصلاً في مكتباتنا، كما أننا نفتقر إلى طبقة العلماء. وبذلك ليس من المستغرب أن نرفض المنطق وهو أداة أساسية من أدوات العلم. فكم تنتشر التناقضات والمصادرة على المطلوب والدور (وتعريف الشيء بالشيء نفسه)، في النص العربي المعاصر نفسه. هكذا نحول الكتابة إلى أداة تجهيل وتخلف فنقدم الجهل على أنه علم ومعرفة.
أما الأدب من شعر ونثر فأمسى بين أيدينا لعباً على الكلمات ما جعله يفتقد إلى أي هدف ومعنى. فمعظم عباراتنا في النثر والشعر أصبحت بلا فحوى كعبارة (العدد سبعة متزوج). فاذا سألت أي مدعي ثقافة عما يجعل العبارة ذات معنى وما يجعلها بلا معنى فستجد الصمت سيد الكلام. فنحن لانميز بين العبارة المالكة لمعنى و العبارة الخالية من معنى، وبذلك من الطبيعي أننا سوبر متخلفين بامتياز.
العلم أساس المجتمع والديمقراطية، لكن لماذا نرفض العلم ما يتضمن من منطق؟ جواب ذلك هو أننا نؤمن باليقينيات. فالعلم عملية تصحيح مستمرة، وبذلك لا يقينيات في العلم. فالنظريات العلمية تستبدل بأخرى عبر تاريخ العلوم. وعلى هذا الأساس، بما أن لا يقينيات في العلم، وبما أن معتقداتنا يقينيات بالنسبة الينا، إذن من المتوقع أن نرفض العلم وما يحتوي من منطق وموضوعية. من هنا، نحن سوبر متخلفون، لأن معتقداتنا يقينيات بالنسبة لنا. فاليقين قاتل العلم بينما اللايقين يدفعنا إلى البحث الدائم عن الحقائق، وهذا جوهر العلم.
من جهة أخرى، العلم أساس المجتمع والديمقراطية. وبما أننا نرفض العلم، إذن من غير المستغرب أننا خسرنا مجتمعاتنا ولم تظهر الديمقراطية لدينا. فكل الأنظمة العربية دكتاتورية ومنها النظام اللبناني الدكتاتوري في طائفيته. الآن، بما أن العلم عملية تصحيح مستمرة، وبذلك لا يقينيات في العلم، إذن أذا قبلنا العلم وشاركنا في إنتاجه حينها ستزول يقينياتنا وتغدو معتقداتنا مجرد أفكار ممكنة ما يتضمن عدم تعصبنا لما نعتقد وبذلك نقبل الآخر، وأن اختلف عنا فيما يعتقد ويتصرف. وقبول الاخر أساس وجود المجتمع وبناء الديمقراطية؛ فلا ديموقراطية ولا مجتمع دون قبول الفرد الآخر والتفاعل معه من منطلق قبوله. ومن هنا العلم أساس المجتمع والديمقراطية. فكما أن العلم لا يحدد ما هو يقيني، كذلك النظام الديمقراطي ومجتمعه المدني لا يحددان ما هو الفكر الصادق وما هو التصرف السليم، دون فكر أو تصرف آخر. هكذا العلم يبني المجتمع الديمقراطي ، ومن دون علوم ومشاركة في إنتاجها يزول المجتمع وتختفي الديمقراطية.
هذا يفسر ايضاً لماذا لماذا تسيطر الدكتاتورية على (مجتمعاتنا الافتراضية). فبما أننا نرفض العلم، وبذلك نتمسك بيقينياتنا ما يتضمن رفضنا للآخر في (مجتمعاتنا)، وأن اختلف فقط قليلاً عنا، إذن من المتوقع أن يموت المجتمع لدينا و تسيطر مجموعة يقينيات دون أخرى، وهذه المجموعة من اليقينيات ليست سوى الدكتاتورية التي تحكمنا. النظام الدكتاتوري مجموع يقينيات قامعة بالضرورة لليقينيات الأخرى. هكذا عدم مشاركتنا في صياغة العلوم أدى إلى انتصار يقينياتنا الكاذبة فزال المجتمع وسيطرت الدكتاتورية، ما جعلنا نفتتح عصراً جديداً هو عصر السوبر تخلف.


السوبر إرهاب

لسنا سوبر متخلفين فقط ، بل نحن أيضاً سوبر إرهابيين. والفرق شاسع بين الإرهاب والسوبر إرهاب. فبينما الإرهاب قتا أجساد الابرياء، السوبر إرهاب قتل إنسانية الإنسان، وهذا ما نجيد فعله. لقد أمسى الفرد منا عبداً لهذا الطاغية الكبير أو الصغير فتحول (الإنسان) لدينا إلى خاصة هذا السلطان أو تلك القبيلة فخسرنا إنسانيتنا وقتلنا إنسانية بعضنا البعض.
والسوبر إرهاب أساس السوبر تخلف. فبما أن السوبر إرهاب هو قتل إنسانية الإنسان، وبما أن السوبر تخلف هو استخدام العلم من أجل التجهيل، وفقط الفاقد لإنسانيته يستخدم العلم من أجل التجهيل، إذن السوبر إرهاب أصل السوبر تخلف ومصدره. هكذا نحن سوبر متخلفين وسوبر إرهابيين في الوقت ذاته. ولم يسبقنا شعب من الشعوب إلى تحقيق هذا الإنجاز!




الجمعة، 24 يوليو 2009

هل الكون مجرد وهم؟


هل الكون مجرد وهم؟

سيرة أفكار العالم الفيزيائي

ليونارد سسكيند


حسن عجمي


الفيزيائي ليونارد سسكيند أب من آباء نظرية الأوتار العلمية التي تفسر الكون على أنه أوتار وموسيقاها بالنسبة إلى نظرية الأوتار،يتكون الكون من أوتار ومع اختلاف ذبذبات الأوتار تختلف المواد والطاقات. تستلزم هذه النظرية أبعاداً عديدة بالإضافة إلى الأبعاد الأربعة المعروفة ألا وهي الطول والعرض والعمق والزمن. فعندما تهتز الأوتار في الأبعاد المختلفة تنشأ الطاقات المتنوعة. هكذا توحد نظرية الأوتار الطاقات المختلفة كالجاذبية والقوى النووية كما توحد المواد الطبيعية والجسيمات المختلفة من خلال اختزالها إلى مجرد أوتار. لذا أطلق العلماء على هذه النظرية أسم (نظرية كل شيء). نرصد هنا سيرة الأفكار الأساسية الخاصة بالفيزيائي سسكيند ومدى ارتباطها بلأفكار الفلسفية الممكنة.

الكون وهم

ساهم ليونارد سسكيند أيضاً في إنتاج نظرية علمية مثيرة مفادها أن الكون مجرد وهم. بالنسبة إلى هذه النظرية ، الكون صورة ثلاثية الأبعاد. والدليل على ذلك هو أن قياس الطاقة في أي منطقة متناسب مع مساحة سطح تلك المنطقة بدلاً من حجم تلك المنطقة. وبذلك تحدث العمليات الفيزيائية على سطح العالم وليس في داخله. فكل معلومة في الكون مخزنة بعيداً في تخوم الفضاء . هكذا يعتبر سسكيند أنه من الممكن وصف كل الأشياء على أنها مجموعات من المعلومات الموجودة على سطح العالم بدلاً من أن تكون منتشرة في الأمكنة كافة. لقد أصبحت هذه النظرية جزاً من الفيزياء ولم تعد تصورات إفتراضياً فقط.
Leonard Susskind: The Black Hole War. 2008. Little, Brown and Company.

تفسير نشوء الحياة والعالم

من جهة أخرى، شارك سسكيند في بناء نظرية الأكوان الممكنة فأوضح كيف أن بعض النظريات العلمية تشير إلى إمكانتية وجود أكوان ممكنة عديدة ومختلفة . فمثلاً كل من نظرية ميكانيكا الكم ونظرية الأوتار تصف الوجود على أنه منقسم إلى أكوان متنوعة. بالنسبة إلى ميكانيكا الكم من غير المحدد ما إذا كانت قطة شرودنغر حية أم ميتة. وهذا قد يعني أنه ثمة عالمان: عالم ممكن حيث قطة شرودنغر حية، وعالم ممكن آخر حيث القطة ذاتها ميتة. كما توجد بلايين من الحلول لمعادلات نظرية الأوتار ،وبذلك كل حل منها يصف عالماً ممكناً ما يؤدي إلى نتيجة أنه توجد أكوان عدة مختلفة. وعلى ضوء تعدد الآكوان يفسر ليونارد سسكيند لماذا يوجد عالم كعالمنا حيث تنمو الحياة وتزدهر. يقول سسكيند التالي : بما أنه توجد أكوان ممكنة مختلفة وعديدة إن لم تكن لامتناهية في العدد، فمن الطبيعي إذاً وجود عالم كعالمنا حيث توجد الحياة وتوجد كل القوانين والمواد الضرورية لنشوئها. هكذا يفسر سسكيند لماذا يوجد عالمنا بمواده وقوانينه بالذات والتي تسمح بوجود الحياة. بكلام آخر، وجودنا نتيجة حتمية لوجود الأكوان الممكنة العديدة والمختلف
ة.
Leonard Susskind: The Cosmic Landscape. 2006. Back Bay Books.

بالنسبة إلى سسكيند، تتآمر قوانين ومواد الطبيعة على خلق الحياة. يشرح ذلك قائلاً إن عالمنا هو الأفضل لنشوء الحياة واستمرارها. فمثلاً، أي اختلاف في قوانين الفيزياء يؤدي إلى نهاية الحياة أو عدم ظهورها أصلاً. وأ ي تغير في خصائص الجسيمات كالالكترونات سيؤدي إلى انهيار الكيمياء التي نعرفها ما يدفع إلى القضاء على الحياة كلياً. فالقوانين الطبيعية والجسيمات وميزاتها كما صفات الكون ككل كحجمه وسرعة تمدده كلها تضمن وجود الحياة وكأنها صنعت من أجل أن توجد الحياة وتبقى. مثل ذلك لو كانت الجاذبية أقوى بقليل مما هي عليه لتطور الكون ونما بسرعة هائلة ما لم يمنح الكون الوقت الكافي لنشوء الحياة. أما إذا كانت الجاذبية أضعف مما هي عليه فلن تتكون حينها المجرات ونجومها وكواكبها، وبذلك ما كانت الحياة لتوجد.كما أن قوانين الطبيعة هي الأفضل بحيث تسمح بنشوء الكربون والأوكسجين والمواد الضرورية الأخرى للحياة وتجعلها تطبخ في النجوم الأولى وتنتشر في الكون من خلال انفجار النجوم. هكذا خيطت قوانين الطبيعة من أجل وجودنا(المرجع السابق).

الثقوب السوداء

بالإضافة إلى ذلك أنتج ليونارد سسكيند نظرية فيزيائية جديدة حول ما يحدث للمادة حين تسقط في الثقب الأسود. وتتشكل الثقوب السوداء من جراء انهيار النجوم على نفسها بفضل جاذبيتها الهائلة. وأي شيء إذا دخل إلى ثقب أسود فسوف يتلاشى حتى أن الضوء لا يتمكن من الفرار من الثقوب السوداء. الآن، القضية التي يسعى سسكيند إلى حلها هي التالية: إذا كانت المادة والمعلومات تزول من الوجود متى دخلت الثقب الأسود ، فهذا يعا
رض مبدأً علمياً أساسيا ًهو أن المادة والطاقة لا زوال لهما. من جهة أخرى، جزء أساسي من تعريف الثقب الأسود هو أنه الذي يبتلع المواد والمعلومات ويفنيها. من هنا، كيف من الممكن الجمع بين هذين الموقفين المتعارضين ألا وهما أن المادة تزول في الثقوب السوداء ولاتزول في الوقت ذاته. يقدم سسكيند حله الخاص وهو التالي: من منظور الزمكان خارج الثقوب السوداء تزول المواد والمعلومات في الثقوب السوداء، لكن من منظور الزمكان داخل الثقوب السوداء لا تزول المواد والمعلومات في الثقوب السوداء. من هنا يقسم الفيزيائي سسكيند العالم إلى عالمين: عالم خارج الثقوب السوداء حيث تزول المعلومات في الثقب الأسود، وعالم داخل الثقوب السوداء ، حيث لا تزول المعلومات. وبذلك لانعارض مبدأ حفظ المعلومات من جراء اعتبار أن المعلومات لا تزول من منطلق العالم داخل الثقب الأسود، ونعبر في الوقت ذاته عن ماهية الثقوب السوداء المبتلعة للمعلومات والمفنية لها من منطلق العالم خارج الثقوب السودا. هكذا يحل سسكيند الإشكال العلمي السابق.
Leonard Susskind : The Black Hole War. 2008. Little, Brown and Company.


السوبر حداثة

كل هذا يقدم أسساً علمية صلبة للسوبرحداثة. فالسوبرحداثة مذهب فلسفي يدرس الأكوان الممكنة، ولقد أوضح لنا بعض العلماء كالفيزيائي سسكيند أنه لاتوجد فعلاً أكوان ممكنة عديدة ومختلفة، وبذلك تكتسب السوبر حداثة مشروعية دراستها للأكوان الممكنة. وبما أنه ثمة أكوان ممكنة مختلفة،إذن إذا نظرنا إليها مجتمعة ستبدو حقائقها غير محددة. من هذا المنطلق، تعتبر السوبر حداثة أن اللامحدد يحكم العالم، وتضيف أنه رغم لامحددية العالم من الممكن معرفته، لأن من خلال لامحدديته من الممكن تفسيه. من هنا، تؤكد السوبر حداثة أن الكون وكل مافيه من حقائق وأشياء وظواهر هي غير محددة بامتياز. على هذا الأساس، من الممكن أن يكون الكون مجرد وهم وأن تكون المواد والمعلومات غير محددة ما إذا كانت تزول في الثقب الأسود أم لا. فبما أنه من غير المحدد ماهو الكون، إذن من الممكن أن يكون الكون وهماً. وبما أنه من غير المحدد ما هي المادة والمعلومات إذن من الطبيعي أن يكون من غيرالمحدد ما إذا كانت تزول أم لا تزول في الثقوب السوداء، وبذلك من المتوقع أن تزول من منطلق العالم خارج الثقوب السوداء وأن لاتزول من منطلق العالم داخل تلك الثقوب. هكذا تتمكن السوبر حداثة من تفسير إمكانية أن يكون الكون وهماً و إمكانية أن تزول وأن لاتزول المواد والمعلومات في الثقب الأسود وبذلك تكتسب السوبر حداثة قدرتها التفسيرية فمقبوليتها.

الجمعة، 10 يوليو 2009

رحلة الى العوالم العلمية الممكنة


سيرة أفكار الفيزيائي لي سمولن

رحلة الى العوالم العلمية الممكنة

حسن عجمي

نقدم في هذا المقال سيرة أفكار الفيزيائي لي سمولن الذي طرح فرضيات مختلفة حول الجاذبية الكمية . فننتقل بين أفكاره العديدة ونرتحل في عوالمه العلمية الممكنة.
لقد شارك سمولن في صياغة نظرية الجاذبية الكمية التي تدرس الزمان والمكان،وتهدف إلى التوحيد بين نظرية ميكانيكا الكم والنظرية النسبية لأينشتاين. من هذا المنطلق يعتبر سمولن أن كلاً من المكان والزمان يتكون من كميات منفصلة. وبذلك طبق سمولن ميكانيكا الكم على الجاذبية بأعتبار أن الجاذبية مجرد انحناء الزمكان كما يقول أينشتاين. بالنسبة إلى ميكانيكا الكم،من غير المحدد أن سرعة لجسيم ومكانه في آن. بكلام آخر ،من غير المحدد ما إذا كانت قطة شرودنغر حية أم ميتة؛ فمن غير المحدد ما إذا كان الجسيم جسيما أم موجة. فالجسم كالإلكترون أو الفوتورن يتصرف على انه جسيم، وعلى أنه موجة بدلاً من جسيم في الوقت نفسه. من هنا يتدفق الضوء في كميات منفصلة وكأنه موجات وجسيمات في آن. على هذا الأساس، يقول سمولن إن الزمكان (جمع الزمان والمكان) يتكون من كميات منفصلة،وأن الزمان والمكان يتكونان من ذرات تماماً كما كل الأشياء الأخرى في الكون.

الكون كومبيوتر أم كائن حي

من جهة أخرى، يبني لي سمولن نموذجين علميين في وصف الكون وتفسيره. بالنسبة إلى النموذج الأول،الكون كومبيوتر ويتشكل من معلومات وتدفقها. هنا يعتبر سمولن أن العالم يتكون من أحداث وعمليات،وأن أحداث وعمليات عالمنا ليست سوى معلومات بينما العلاقات فيما بينها كالعلاقات السببية ليست سوى انتقال المعلومات من حدث إلى آخر . أما بالنسبة إلى النموذج الثاني فالكون كائن حي، ويذلك الكون محكوم من قبل المبادىء ذاتها التي تحكم عالم الأحياء كمبدأ الإنتقاء الطبيعي الدارويني. فكما أن الإنتقاء الطبيعي يختار الصفات الأفضل في الأحياء فيبقيها ويضمن بذلك إستمرارية الحياة،كذلك في عالمنا أكوان ممكنة أخرى. وبذلك نضمن استمرارية الوجود. ومن منطلق هذا النموذج،تولد أكوان جديدة في الثقوب السوداء،بذلك الكون الذي يمتلك ثقوبا سوداء أكثر ينجب أكوانا جديدة أكثر،وبذلك يختار الانتقاء الطبيعي الأكوان المتضمنة لأعداد أكثر من الثقوب السوداء في عالمنا كما يفسر نشوء الحياة؛ فالكربون المفيد لوجود الحياة يبني النجوم أيضا التي تنهار وتص
بح ثقوبا سوداء. هكذا حول سمولن الكون إلى كائن حي قادر على الإنجاب. َ
Lee Smolin: Three Roads To Quantum Gravity 2001.Basic Books

الأكوان الممكنة

كما يطرح سمولن فرضية أنه من الممكن للعالم أن ينتقل من حالة إلى أخرى،وكل حالة تشكل كونا ممكنا مختلفا في أبعاده الزمكانية، وفي حقائقه وقوانينه الطبيعية عن الحالات الاخرى للكون. بكلام آخر،بالنسبة إلى سمولن،من الممكن أن الأكوان الممكنة المختلفة موجودة. ولكنها ليست سوى الحالات المتنوعة التي تصيب عالمنا الواقعي. وبذلك يغدو الانفجار العظيم مجرد حدث حديث تعرض له عالمنا،سبقته انفجارات عظمى عدة أنتجت أكوانا ممكنة مختلفة كانت هي عالمنا. وعلى أساس هذا النموذج؛ تتغير القوانين الطبيعية مع انتقال عالمنا من كون ممكن إلى كون ممكن آخر. يعتمد سمولن على أساس علمية عدة في اقتراحه هذا، منها ميكانيكا الكم التي على وجود تواريخ عديدة ومختلفة لعالمنا من جراء أن مبدأ اللامحدد يحكم عالم مادون الذرة. ولا يكتفي سمولن بهذه الأفكار،بل يطرح أيضا فكرة أن العلم نظام ديمقراطي. حيث كل عالم له صوت واحد في انتخاب النظريات كما له الحرية الكاملة في انتاجها. ضمن هذا النظام الديمقراطي صاغ سمولن نظرياته الممكنة (المرجع السابق).

مشكلة الفيزياء

مشكلة كبرى بداية الثمانينات من القرن الماضي. فلم يتمكن الفيزيائيون من تطوير معرفتنا بقوانين الطبيعة. وسبب ذلك أن النظريات التي تم طرحها في الثلاثين سنة الأخيرة هي إما نظريات أظهرت كذبها،وإما أنه يستحيل اختبار ما إذا كانت صادقة أم كاذبة ومثل ذلك نظريات الأوتار بالنسبة إلى نظرية الأوتار،كل الكون يتكون من أوتار تمتلك ذبذبات مختلفة. ومع اختلاف تذبذبها تختلف الطاقات والجسيمات ويؤكد لي سمولن على أن هذه النظرية قد سيطرت على فكر العديد من الفيزيائيين رغم أننا لا نعرف ما إذا كانت صادقة فنظرية الأوتار لا تتنبأ بأي تنبوء جديد، وبذلك يستحيل معرفة إذا كانت صادقة أم كاذبة من خلال التجربة لعلمية. وبذلك تخبطت الفيزياء وسقطت في مشكلتها الحالية. بالنسبة إلى سمولن، المنهج العلمي هو الذي يتضمن اختبار النظريات العلمية على ضوء تنبؤاتها؛ فإذا تنبأت النظريات بما هو صادق تغدو تلك النظريات صادقة،وإذا تنبأت النظريات بتنبؤات كاذبة تصبح تلك النظريات كاذبة. من هنا،وبما أن نظرية الأوتار لا تتنبأ بما هو جديد،إذن يستحيل اختبارها وبذلك لا ترتقي إلى مستوى العلم الحقيقي.كما يوضح سمولن أن نظرية الأوتار غير كاملة ولا يوجد دليل على صدقها،ورغم
ذلك مازال العديد من الفيزيائيين يعملون على أساسها ويؤمنون بها.
Lee Smolin: The Throuble With Physics.2006 Houghton Mifflin Company.

اللامحدد

على ضوء ما تقدم نستنتج أنه من غير المحدد ما هو المنهج العلمي تماماً كما تصر السوبر حداثة. فرغم عدم اختبار نظرية الأوتار ما زال العديد من العلماء يقبلون بها،وهذا يشير إلى أنهم يعتبرون أن المنهج العلمي لا يستلزم بالضرورة اختبار النظريات العلمية من أجل قبولها. لكن من جهة أخرى، نجد عدداً من من الفيزيائيين، ومنهم لي سمولن يشككون في نظرية الأوتار لعدم إمكانية اختبارها،وبذلك يعتبرون أن المنهج العلمي يستلزم اختبار النظريات. من هنا من غير المحدد ماهو المنهج العلمي، ولذا يختلف العلماء حول ما إذا كان المنهج العلمي يستلزم أم لا يستلزم الاختبار،وبذلك يختلفون حول قبول أو عدم قبول نظرية الأوتار. هكذا تنجح السوبر حداثة في تفسير اختلاف وجهات نظر الفيزيائيين ما يدعم مقبولية السوبر حداثة. كما تتمكن السوبر حداثة من تفسير لماذا ينجح العلماء في تفسير الكون ووصفه بأوصاف عديدة رغم اختلاف تلك الأوصاف والتفاسير. فبما أن الكون غير محدد ما هو كما تقول السوبر حداثة،إذن من الطبيعي أن ينجح العلماء في وصف الكون وتفسيره بأوصاف وتفاسير عديدة ومختلفة. ولذا نجح لي سمولن، مثلاً في وصف الكون على أنه حاسوب وفي وصفه على أنه كائن حي في آن. فإذا كان الكون حاسوباً،إذن هو ليس كائناً حياً،وإذا كان كائنا حياً إذن هو ليس حاسوباً،لكن سمولن ينجح في وصف الكون على أنه حاسوب وعلى أنه كائن حي،وسبب ذلك أنه من غير المحدد ما الكون.











الجمعة، 12 يونيو 2009

صراع المذاهب الفلسفية



لماذا ينجح العلم في تفسير الكون؟

صراع المذاهب الفلسفية


حسن عجمي

يرتحل هذا المقال إلى عوالم فلسفة العلوم ليسأل سؤالها الإنساني: لماذا تنجح النظريات العلمية في تفسير الكون؟ تتنوع المدارس الفلسفية في الإجابة عن هذا السؤال وتتنافس. فالصراع ماهية الفلسفة والعلم ، لكنه صراع اخلاقي يقوده البحث الدائم عن الحقيقة.
نسأل فلسفة العلوم سؤلاً محورياً هو: لماذا النظريات المعاصرة كنظريات الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا ... ناجحة في تفسير الظواهر الطبيعية والتنبؤ بها ؟
تختلف المذاهب الفلسفية في إجاباتها فتنقسم فلسفة العلوم إلى مذهبين أساسيين هما المذهب الواقعي والمذهب اللاواقعي ( ليس بالمعنى السلبي). يفسر المذهب الواقعي نجاح النظريات العلمية من خلال صدقها أي مطابقتها للواقع. فيقول هذا المذهب ان النظريات العلمية المعاصرة ناجحة في تفسير الكون لأنها صادقة أي مطابقة للواقع. يقدم الفيلسوف ريتشارد بويد الحجة الأساسية للمذهب الواقعي على النحو التالي: التفسير الوحيد لنجاح النظريات العلمية هو أنها صادقة. فلو أنها ليست صادقة رغم نجاحها في تفسير الظواهر الطبيعية لا يستلزم ذلك معجزة ما بفضلها تغدو النظريات العلمية ناجحة في تفسير العالم رغم صدقها. فعدم صدق النظريات العلمية يستدعي عدم نجاحها في التفسير والتنبؤ بالظواهر الطبيعية،لذا نجاح العلم يشير بقوة إلى صدق نظرياته،فبفضل صدقها تنجح. فاذا كانت النظريات العلمية ليست صادقة،فسيكون من المستغرب حينها لماذا تنجح. من هنا التفسير الوحيد والأفضل لنجاح النظريات العلمية المعاصرة هو أنها نظريات صادقة.


Editors: Richard Boyd, Philip Gasper, J.D. Trout: The Philosophy of Science. 1991. MIT Press.

لكن المذهب اللاواقعي يعترض على هذا التفسير، ويقدم حججا عدة ضد الاتجاه الواقعي منها: يرينا تاريخ العلوم أن النظريات العلمية تستبدل بنظريات أخرى،فمثلا تم استبدال نظرية نيوتن بنظرية اينشتاين. وبما ان النظريات العلمية تستبدل بنظريات علمية أخرى، إذن النظريات العلمية ليست صادقة فلا تطابق الواقع وإلا ما كانت لتستبدل بأخرى. كما ان نظرية نيوتن ناجحة في تفسير العديد من الظواهر،لكنها كاذبة كما أظهر العلم المعاصر. وبذلك نجاح النظرية لا يستلزم صدقها. ولو أن كل نظرية صادقة،لكانت لكانت نظرية النسبية لاينشتاين ونظرية ميكانيكا الكم صادقتين لنجاحهما. لكنهما تناقضان بعضها البعض،وبذلك يستحيل صدقهما معاً. من هنا نجاح النظرية العلمية لا يستلزم صدقها. على أساس كل هذا يستنتج المذهب اللاواقعي أن النظريات العلمية ليست صادقة ولا كاذبة، بل هي فقط مقبولة من جراء نجاحها. فالنظريات العلمية مجرد أدوات لتفسير الظواهر الطبيعية والتنبؤ بها (المرجع السابق).
بالاضافة الى ذلك تتشعب المذاهب ضمن المذهب اللاواقعي في محاولاتها تفسير نجاح النظريات العلمية من دون الاعتماد على القول بأنها نظريات صادقة. مثل ذلك التفسير الذي يقدمه الفيلسوف (توماس كون) ألا وهو التالي: النظرية العلمية تحدد موضوع العلم والمشاكل العلمية وكيفية حلها والمعاير التي من خلالها نستطيع بحق أن نبرهن صدق أو كذب الأقوال كما تحدد ماهي حقائق الكون ولا تستطيع أن ترى العالم سوى من منظورها، وبذلك من الصعب تكذيبها من منطلق نظرية أخرى. لذا من الطبيعي أن تنجح النظرية العلمية في تفسير الكون ووصفه بما أنها المرجع الوحيد للحكم العلمي فتختار المشاكل التي من الممكن تحلها و إذا تعرضت إلى مشكلة لا حل لها يتم تعديل النظرية لتتمكن من حلها. هكذا يفسر (كون) نجاح النظريات العلمية.


Thomas Kuhn: The Structure of Scientific Revolutions. 1970. The University of Chicago Press.

أما الفيلسوف فان فراسن فيفسر نجاح العلوم بطريقة أخرى وهي: تحيا النظريات العلمية في صراع دام فيما بينها،وفقط الأنجح منها يبقى ويستمر لكونه الأنجح. هكذا النظريات العلمية محكومة بالانتقاء الطبيعي. فكما أن الانتقاء الطبيعي الدارويني يختار الأفضل والأنجح من الكائنات الحية فيبقيها في الوجود،كذلك الانتقاء الطبيعي يختار الأفضل والأنجح من النظريات العلمية فيبقيها. ولذا النظريات العلمية المعاصرة ناجحة في تفسير الكون والتنبؤ بظواهره.
-Van Fraassen: The scientific Image. 1980. Oxford University Press.

يواجه المذهب اللاواقعي مشكلة أساسية هي: بالنسبة إلى (كون)، النظرية العلمية تحدد المشاكل التي لابد من حلها، وبذلك من الطبيعي أن تختار المشاكل التي تتمكن من حلها،وإن لم تستطع يتم تعديل النظرية لتنجح في حلولها،ومن هنا من الطبيعي أن تنجح النظريات العلمية من منظور الفيلسوف (كون). لكن من الممكن أن تكون كل المشاكل غير قابلة للحل فيستحيل تعديل النظرية لتتمكن من حلها ولا تتمكن أية نظرية من اختيار المشاكل التي لها حلول. وبذلك لا تفسر نظرية (كون) لماذا تنجح النظريات العلمية في حل المشاكل،فهي تسلم بأن المشاكل العلمية لها حلول بدلاً من أن تفسر لماذا لاتملك حلولاُ. من المنطلق ذاته،تتهاوى نظرية فان فراسن. بالنسبة إلى فان فراسن،النظريات العلمية ناجحة لأن فقط النظريات ناجحة،تبقى في الصراع الدارويني الدامي. لكن من الممكن ان تكون كل النظريات العلمية فاشلة فلا تبقى أية نظرية من جراء الصراع فيما بينها.
وبذلك لا تفسر نظرية فان فراسن لماذا تنجح النظريات العلمية،بل تسلم بأن بعض النظريات تملك صفات ناجحة وبذلك تتغلب على نظريات أخرى فاقدة تلك الصفات بدلاً من أن تفسر لماذا بعض النظريات تملك نجاحاتها.
حتى لو أننا سلمنا بأن النظريات العلمية تتصارع وفقط الأنجح منها يبقى،من الممكن أن تكون كل النظريات فاشلة،وبذلك لاتبقى أية نظرية لتكتسب صفة النجاح.
أخيراً تتمكن السوبر حداثة من الإجابة عن تساؤلنا،وذلك على النحو التالي: بالنسبة إلى السوبر حداثة،من غير المحدد ماهو الكون،لكن رغم لامحددية الكون من الممكن معرفته لأن من خلال لامحددية من الممكن تفسيره. على هذا الأساس،بما أن الكون غير محدد،إذن من الممكن أن نعبر عنه بنجاح من خلال لغات عدة مختلفة كلغة الفيزياء ولغة الكيمياء ولغة البيولوجيا ولغة الرياضيات إلخ. لذا من غير المستغرب أن تنجح العلوم في تفسير الكون ووصفه. هكذا تفسر السوبر حداثة نجاح النظريات العلمية.






السبت، 30 مايو 2009

الأكوان الممكنة وأهداف الطبيعة



مارتن ريز و بول ديفيز

الأكوان الممكنة وأهداف الطبيعة



حسن عجمي


مارتن ريز فيزيائي وعالم كونيات درس الاشعاعات الكونية وكيفية تشكل المجرات. كتب أكثر من خمسمائة مقال علمية. أما الفيزيائي بول ديفيز فاهتم بدراسة علم الكونيات وميكانيكا الكم. كما بحث في البيولوجيا الفضائية فاشتهر بموقفه القائل بإمكانية أن يكون مصدر الحياة على الأرض هو المريخ،عبر تساقط الصخور والنيازك. يتفق كل من ريز وديفز عل طرح سؤال محورى: لماذا يوجد عالمنا بالذات، بحيث يسمح بوجود الحياة؟ لكنهما يختلفان بالإجابة على هذا السؤال. نراقب في هذا المقال نظريتيهما ومدى نجاحها.
يسأل مارتن ريز سؤلاً علمياً وفلسفياً أساسياً ألا وهو: لماذا يوجد عالمنا الواقعي بدلاً من أن يوجد عالم آخر؟فمن الممكن أن يوجد عالم مختلف في حقائقه وقوانينه الطبيعية عن عالمنا،وبذلك يحق لنا،أن نسأل لماذا يوجد عالمنا بالذات بدلا من عالم آخر،وهذا السؤال مرتبط بالضرورة بسؤال آخر وهو: لماذا توجد الظروف والحقائق والقوانين الطبيعية في عالمنا الواقعي التي تسمح بنشوء الحياة؟ فمن الممكن أن يكون عالمنا خالياً من أية ظروف وحقائق وقوانين سامحة لنمو الحياة. لكننا نجد أن الحياة قد أزدهرت في عالمنا. من هنا،علينا ان نسأل علمياً وفلسفياً: لماذا وجد عالمنا بحقائقه وظروفه وقوانينه بالذات المتآمرة على نشوء الحياة بدلاً من أن يوجد عالم ممكن آخر مختلف ولايسمح ابداً بنمو الأحياء؟ هذان السؤلان توأمان فإذا أجبنا عن أحدهما نجيب عن الآخر . فالسبب الذي يؤدي إلى نشوء عالمنا بقوانينه وحقائقه هو ذاته الذي يؤدي الى ظهور الحياة. الان،يعتمد الفيزيائي ريز في إجابته على نظرية الأكوان الممكنة التي تعتبر انه توجد أكوان ممكنة عديدة ومختلفة.


الأكوان الممكنة

ثمة ثلاث نظريات علمية أساسية يستنتج منها،أنه توجد اكوان ممكنة عدة ومتنوعة. النظرية الاولى هي ميكانيكا الكم. بالنسبة اليها،من غير المحدد سرعة الجسم ومكانه في آن،ومن غير المحدد ما إذا كان الجسم جسيماظص أم موجة. من هنا تقول ميكانيكا الكم إنه من غير المحدد ما إذا كانت قطة شرودنغر حية أم ميتة. لكن لابد لاي قطة أن تكون إما حية إما ميتة. وهذا ما يعارض ميكانيكا الكم كي يحلو المشكلة. من هذه التفاسير التفسير التالي: ثممة عالمان ممكنان مختلفان بدلاً من عالم واحد. في عالم ممكن قطة شرودنغر حية، وفي عالم ممكن آخر قطة شرودنغر نفسها ميتة. هطذا يتم أختزال القول،إنه من غير المحدد ما إذا كانت قطة شردنغر حيةأم ميتة إلى القول إنه يوجد عالمان حيث القطة حية وعالم آخر حيث القطة ذاتها ميتة. وبذلك يتجنب هذا التفسير لميكانيكا الكم الآشكال السابق. من هنا ترشدنا ميكانيكا الكم إلى قبول أنه توجد أكوان ممكنة عديدة ومختلفة. النظرية العلمية الثانية تعتبر أن الكون قد نشأ من عدم ،جراء التقلبات الكمية. ولكن بما أن الكون نشأ من نقطة العدم، إذاً من المتوقع نشوء أكوان ممكنة مختلفة من نقاط متنوعة في العدم، هكذا تدافع هذه النظرية عن فكرة وجود الكوان الممكنة. أما النظرية العلمية الثانية فهي نظرية الأوتار التي تقول، إن الكون يتكون من أوتار وأنغامها. فكل الجسيمات والطاقات مكونة من أوتار وتتشكل من جراء اختلاف ذبذبات الآوتار. وبذلك لابد أن كل حل منها يصف كوناً ممكناً مختلفاً من الأكوان التي تصفها الحلول الأخرى. هكذا تؤدى نظرية الوتار العلمية إلى نتيجة انه توجد فعلاً أكوان ممكنة عديدة ومتنوعة.

تفسير عالمنا


يستعين مارتن ريز بهذه النظرية ليؤكد على وجود الأكوان الممكنة، ومن خلال وجود هذه الكوان يفسر لماذا يوجد عالمنا بالذات. يقول ريز: بما أنه توجد أكوان ممكنة مختلفة وعديدة إن لم تكن لامتناهية في العدد،إذاً من غير المستغرب وجود عالم كعالمنا يحتوي على حقائقه وقوانينه الطبيعية بالذات،بدلاً من حقائق وقوانين أخرى. هكذا يفسر ريز لماذا يوجد عالمنا بحقائقه وقوانينه. ويقدم مارتن ريز مثلاً على ذلك وهو أنه إذا دخلنا متجراً لبيع الثياب حيث توجد ألبسة متنوعة بمقاسات عدة ومختلفة، إذاً حينها سيكون من الطبيعي أن نجد لباساً يناسبنا، من المنطلق ذاته، بما أنه توجد أكوان مختلفة كثيرة وعديدة،إذاً من المتوقع أن يوجد عالم كعالمنا تسمح ظروفه وحقائقه وقوانينه الطبيعية بظهور الحياة وازدهارها. هكذا يتمكن ريز من تفسير لماذا توجد الحياة ولماذا تسمح ظروف عالمنا وقوانينه بنشوئها تماناً كما يتمكن من تفسير لماذا يوجد عالمنا بالذات.
(
Martin Rees:Our Cosmic Habitat 2001. Princeton University Prees)



أهداف الطبيعة


من جهة أخرى، يعتبر الفيزيائي بول ديفيز ان الكون مكون بدقة بالغة؛ فإذا أختفت أية صفة للكون كصفات ذراته او توزيع مجراته ولو قليلاص عما هي عليه ما كانت الحياة لتوجد. مثل ذلك: الكربون والماء السائل الموجودان بكثرة في عالمنا ضروريان لوجود الحياة، والقوانين الطبيعية كانها مكونة خصيصاً لكي توجد الحياة. عالمنا في كل معالمه صديق مخلص للحياة. فمثلاً ،ستحيل وجود الحياة في عالم بأبعاد غير أبعاده المكانية الثلاثة الحالية. وكما نعرف فإن الكون قد نشأ من جراء النفجار العظيم. لكن لو كان هذا الأنفجار اكبر مما كان لتطايرت الغازات ولم تنشأ المجرات. ولو كان الأنفجار العظيم لم يكن كبيراص كما هو لانهار على نفسه قبل نشوء الحياة. فالكون يتمدد بدرجة كافية لتنمو المجرات والنجوم والكواكب، ولكن ليس ببطء شديد كي لاينهار. هكذا الانفجار العظيم و ما أدى إليه من تمدد للكون هما عنصران أساسيان لخلق الحياة وكأنهما إتخذا صفاتهما فقط من أجل أن تظهر الحياة. أما القوى الطبيعية كالجاذبية والقوى النووية فهي مناسبة جداً لوجود الحياة؛ فلو أنهما أقوى بقليل أو أضعف بقليل ما كانت الحياة لتتمكن من الوجود.
(Paul Davies: Cosmic Jackpot 2009. Houghton Mifflin Company.)
يبني ديفز تفسيره الخاص تلك الحقائق. يقول إن الحياة والعقل أساسيان في الكون؛ فلا بد من النظر إلى الحياة والعقل على أنهما يشتركان في خلق العالم، كما يشير إلى ذلك ميكانيكا الكم. فعلى ضوء ميكانيكا الكم يستنتج ديفز أن العقل والحياة أساسيان في وجود الكون، بدلاً من ان يكونا نتيجتي الصدفة. من هنا ، يقول إنه يوجد مبدأ طبيعي شبيه بالقوانين الطبيعية يحتم وجود الحياة والعقل ولذا العالم ينتج وجودهما ويخلقهما بالفعل،هكذا يفسر ديفز لماذا الكون صديق للحياة،أي لماذا توجد الحياة في عالمنا. فللكون هدف طبيعي هو جزء من مبادئه الطبيعية،وهذا الهدف هو هدف بناء الحياة. أما بالنسبة إلى ميكانيكا الكم فمن غير المحدد ما إذا كان الجسيم جسيماً أم موجة. تتعدد هنا تفاسير مضمون ميكانيكا الكم منها التفسير القائل إن الوعي يحدد طبيعة الجسيم، فإذا نظر الى الجسيم أبصره حينها يدركه، إما على أنه جسيم وإما علة أنه موجة. فالوعي يحدد ما غذا كان الجسيم جسيماً أم موجة. لكن الكون يخلق الحياة والعقل،ولقد وجدنا مع ديفز أن الحياة والعقل يخلقان الكون أيضاً. من هنا الكون يخلق ويفسر ذاته. ويعترف ديفز أنه اقرب إلى قبول هذا الموقف. على أساس كل هذا، يوجد عالمنابحقائقه وقوانينه الطبيعية بالذات لأن له هدفاً ألا وهو خلق الحياة. هكذا يفسر ديفز لماذا يوجد عالمنا بالذات.

مشاكل مدمرة


لكن كلا من نظرية ريز ونظرية ديفز تواجه مشكلة مدمرة. تفسر نظرية ريز وجود عالمنا من خلال وجود الأكوان الممكنة العديدة. يفشل هذا التفسير لأن تسليمنا العلمي بوجود الأكوان الممكنة لايتضمن بالضرورة وجود عالم كعالمنا بحقائقه وقوانينه بالذات. لنسلم بأنه توجد أكوان ممكنة مختلفة ولامتناهية في العدد،رغم ذلك من الممكن بالنسبة إلى علم الرياضيات، سحب الأكوان الشبيهة بعالمنا ومنها عالمنا الواقعي نفسه من سلسلة الأكوان الممكنة اللامتناهية، وتبقى هذه السلسلة مكونة من أكوان لامتناهية؛ هذا ما يؤكده علم الامتناهيات. على هذا الأساس السلسلة اللامتناهية من الأكوان الممكنة لاتتظمن بالضرورة وجود عالم كعالمنا. من هنا وجود الأكوان الممكنة لايساعدنا على تفسير لماذا يوجد عالمنا بالذات.كما تعاني نظرية ديفز من مشكلة أساسية،هي أنها غير علمية. فمهما كانت بنية الحياة تفسرها نظرية ديفز على انها كذلك بسبب أن هدف المبدأ الطبيعي الخالق للحياة، هو أن يخلقها كذلك. بالنسبة إلى هذه النظرية، بنية الحياة هي هذه البنية دون بنية أخرى، بسبب المبدأ الطبيعي. وبذلك مهما كانت بنية الحياة يتم تفسيرها من خلال هدف المبدأ الطبيعي ما يعني أنه يستحيل أختيار نظرية ديفز، لأنها لاتحدد ما يجب أن تكون عليه بنية الحياة. لكن النظرية العلمية هي التي من الممكن أختيارها. من هنا نظرية ديفز غير علمية فالتفسير من خلال الأهداف الطبيعية (أو الروحية) تفسير غير علمي، لأنه لا يتنبأ بنبؤات محددة فيستحيل أختباره. ففي حال كانت الحياة غير موجودة او في حال كانت موجودة لفسرنا ذلك من خلال هدف المبدأ الطبيعي، وبذلك لايتنبأ هذا المبدأ الطبيعي بعدم وجود الحياة أو بوجودها وبذلك يخسر علميته.