السبت، 30 مايو 2009

الأكوان الممكنة وأهداف الطبيعة



مارتن ريز و بول ديفيز

الأكوان الممكنة وأهداف الطبيعة



حسن عجمي


مارتن ريز فيزيائي وعالم كونيات درس الاشعاعات الكونية وكيفية تشكل المجرات. كتب أكثر من خمسمائة مقال علمية. أما الفيزيائي بول ديفيز فاهتم بدراسة علم الكونيات وميكانيكا الكم. كما بحث في البيولوجيا الفضائية فاشتهر بموقفه القائل بإمكانية أن يكون مصدر الحياة على الأرض هو المريخ،عبر تساقط الصخور والنيازك. يتفق كل من ريز وديفز عل طرح سؤال محورى: لماذا يوجد عالمنا بالذات، بحيث يسمح بوجود الحياة؟ لكنهما يختلفان بالإجابة على هذا السؤال. نراقب في هذا المقال نظريتيهما ومدى نجاحها.
يسأل مارتن ريز سؤلاً علمياً وفلسفياً أساسياً ألا وهو: لماذا يوجد عالمنا الواقعي بدلاً من أن يوجد عالم آخر؟فمن الممكن أن يوجد عالم مختلف في حقائقه وقوانينه الطبيعية عن عالمنا،وبذلك يحق لنا،أن نسأل لماذا يوجد عالمنا بالذات بدلا من عالم آخر،وهذا السؤال مرتبط بالضرورة بسؤال آخر وهو: لماذا توجد الظروف والحقائق والقوانين الطبيعية في عالمنا الواقعي التي تسمح بنشوء الحياة؟ فمن الممكن أن يكون عالمنا خالياً من أية ظروف وحقائق وقوانين سامحة لنمو الحياة. لكننا نجد أن الحياة قد أزدهرت في عالمنا. من هنا،علينا ان نسأل علمياً وفلسفياً: لماذا وجد عالمنا بحقائقه وظروفه وقوانينه بالذات المتآمرة على نشوء الحياة بدلاً من أن يوجد عالم ممكن آخر مختلف ولايسمح ابداً بنمو الأحياء؟ هذان السؤلان توأمان فإذا أجبنا عن أحدهما نجيب عن الآخر . فالسبب الذي يؤدي إلى نشوء عالمنا بقوانينه وحقائقه هو ذاته الذي يؤدي الى ظهور الحياة. الان،يعتمد الفيزيائي ريز في إجابته على نظرية الأكوان الممكنة التي تعتبر انه توجد أكوان ممكنة عديدة ومختلفة.


الأكوان الممكنة

ثمة ثلاث نظريات علمية أساسية يستنتج منها،أنه توجد اكوان ممكنة عدة ومتنوعة. النظرية الاولى هي ميكانيكا الكم. بالنسبة اليها،من غير المحدد سرعة الجسم ومكانه في آن،ومن غير المحدد ما إذا كان الجسم جسيماظص أم موجة. من هنا تقول ميكانيكا الكم إنه من غير المحدد ما إذا كانت قطة شرودنغر حية أم ميتة. لكن لابد لاي قطة أن تكون إما حية إما ميتة. وهذا ما يعارض ميكانيكا الكم كي يحلو المشكلة. من هذه التفاسير التفسير التالي: ثممة عالمان ممكنان مختلفان بدلاً من عالم واحد. في عالم ممكن قطة شرودنغر حية، وفي عالم ممكن آخر قطة شرودنغر نفسها ميتة. هطذا يتم أختزال القول،إنه من غير المحدد ما إذا كانت قطة شردنغر حيةأم ميتة إلى القول إنه يوجد عالمان حيث القطة حية وعالم آخر حيث القطة ذاتها ميتة. وبذلك يتجنب هذا التفسير لميكانيكا الكم الآشكال السابق. من هنا ترشدنا ميكانيكا الكم إلى قبول أنه توجد أكوان ممكنة عديدة ومختلفة. النظرية العلمية الثانية تعتبر أن الكون قد نشأ من عدم ،جراء التقلبات الكمية. ولكن بما أن الكون نشأ من نقطة العدم، إذاً من المتوقع نشوء أكوان ممكنة مختلفة من نقاط متنوعة في العدم، هكذا تدافع هذه النظرية عن فكرة وجود الكوان الممكنة. أما النظرية العلمية الثانية فهي نظرية الأوتار التي تقول، إن الكون يتكون من أوتار وأنغامها. فكل الجسيمات والطاقات مكونة من أوتار وتتشكل من جراء اختلاف ذبذبات الآوتار. وبذلك لابد أن كل حل منها يصف كوناً ممكناً مختلفاً من الأكوان التي تصفها الحلول الأخرى. هكذا تؤدى نظرية الوتار العلمية إلى نتيجة انه توجد فعلاً أكوان ممكنة عديدة ومتنوعة.

تفسير عالمنا


يستعين مارتن ريز بهذه النظرية ليؤكد على وجود الأكوان الممكنة، ومن خلال وجود هذه الكوان يفسر لماذا يوجد عالمنا بالذات. يقول ريز: بما أنه توجد أكوان ممكنة مختلفة وعديدة إن لم تكن لامتناهية في العدد،إذاً من غير المستغرب وجود عالم كعالمنا يحتوي على حقائقه وقوانينه الطبيعية بالذات،بدلاً من حقائق وقوانين أخرى. هكذا يفسر ريز لماذا يوجد عالمنا بحقائقه وقوانينه. ويقدم مارتن ريز مثلاً على ذلك وهو أنه إذا دخلنا متجراً لبيع الثياب حيث توجد ألبسة متنوعة بمقاسات عدة ومختلفة، إذاً حينها سيكون من الطبيعي أن نجد لباساً يناسبنا، من المنطلق ذاته، بما أنه توجد أكوان مختلفة كثيرة وعديدة،إذاً من المتوقع أن يوجد عالم كعالمنا تسمح ظروفه وحقائقه وقوانينه الطبيعية بظهور الحياة وازدهارها. هكذا يتمكن ريز من تفسير لماذا توجد الحياة ولماذا تسمح ظروف عالمنا وقوانينه بنشوئها تماناً كما يتمكن من تفسير لماذا يوجد عالمنا بالذات.
(
Martin Rees:Our Cosmic Habitat 2001. Princeton University Prees)



أهداف الطبيعة


من جهة أخرى، يعتبر الفيزيائي بول ديفيز ان الكون مكون بدقة بالغة؛ فإذا أختفت أية صفة للكون كصفات ذراته او توزيع مجراته ولو قليلاص عما هي عليه ما كانت الحياة لتوجد. مثل ذلك: الكربون والماء السائل الموجودان بكثرة في عالمنا ضروريان لوجود الحياة، والقوانين الطبيعية كانها مكونة خصيصاً لكي توجد الحياة. عالمنا في كل معالمه صديق مخلص للحياة. فمثلاً ،ستحيل وجود الحياة في عالم بأبعاد غير أبعاده المكانية الثلاثة الحالية. وكما نعرف فإن الكون قد نشأ من جراء النفجار العظيم. لكن لو كان هذا الأنفجار اكبر مما كان لتطايرت الغازات ولم تنشأ المجرات. ولو كان الأنفجار العظيم لم يكن كبيراص كما هو لانهار على نفسه قبل نشوء الحياة. فالكون يتمدد بدرجة كافية لتنمو المجرات والنجوم والكواكب، ولكن ليس ببطء شديد كي لاينهار. هكذا الانفجار العظيم و ما أدى إليه من تمدد للكون هما عنصران أساسيان لخلق الحياة وكأنهما إتخذا صفاتهما فقط من أجل أن تظهر الحياة. أما القوى الطبيعية كالجاذبية والقوى النووية فهي مناسبة جداً لوجود الحياة؛ فلو أنهما أقوى بقليل أو أضعف بقليل ما كانت الحياة لتتمكن من الوجود.
(Paul Davies: Cosmic Jackpot 2009. Houghton Mifflin Company.)
يبني ديفز تفسيره الخاص تلك الحقائق. يقول إن الحياة والعقل أساسيان في الكون؛ فلا بد من النظر إلى الحياة والعقل على أنهما يشتركان في خلق العالم، كما يشير إلى ذلك ميكانيكا الكم. فعلى ضوء ميكانيكا الكم يستنتج ديفز أن العقل والحياة أساسيان في وجود الكون، بدلاً من ان يكونا نتيجتي الصدفة. من هنا ، يقول إنه يوجد مبدأ طبيعي شبيه بالقوانين الطبيعية يحتم وجود الحياة والعقل ولذا العالم ينتج وجودهما ويخلقهما بالفعل،هكذا يفسر ديفز لماذا الكون صديق للحياة،أي لماذا توجد الحياة في عالمنا. فللكون هدف طبيعي هو جزء من مبادئه الطبيعية،وهذا الهدف هو هدف بناء الحياة. أما بالنسبة إلى ميكانيكا الكم فمن غير المحدد ما إذا كان الجسيم جسيماً أم موجة. تتعدد هنا تفاسير مضمون ميكانيكا الكم منها التفسير القائل إن الوعي يحدد طبيعة الجسيم، فإذا نظر الى الجسيم أبصره حينها يدركه، إما على أنه جسيم وإما علة أنه موجة. فالوعي يحدد ما غذا كان الجسيم جسيماً أم موجة. لكن الكون يخلق الحياة والعقل،ولقد وجدنا مع ديفز أن الحياة والعقل يخلقان الكون أيضاً. من هنا الكون يخلق ويفسر ذاته. ويعترف ديفز أنه اقرب إلى قبول هذا الموقف. على أساس كل هذا، يوجد عالمنابحقائقه وقوانينه الطبيعية بالذات لأن له هدفاً ألا وهو خلق الحياة. هكذا يفسر ديفز لماذا يوجد عالمنا بالذات.

مشاكل مدمرة


لكن كلا من نظرية ريز ونظرية ديفز تواجه مشكلة مدمرة. تفسر نظرية ريز وجود عالمنا من خلال وجود الأكوان الممكنة العديدة. يفشل هذا التفسير لأن تسليمنا العلمي بوجود الأكوان الممكنة لايتضمن بالضرورة وجود عالم كعالمنا بحقائقه وقوانينه بالذات. لنسلم بأنه توجد أكوان ممكنة مختلفة ولامتناهية في العدد،رغم ذلك من الممكن بالنسبة إلى علم الرياضيات، سحب الأكوان الشبيهة بعالمنا ومنها عالمنا الواقعي نفسه من سلسلة الأكوان الممكنة اللامتناهية، وتبقى هذه السلسلة مكونة من أكوان لامتناهية؛ هذا ما يؤكده علم الامتناهيات. على هذا الأساس السلسلة اللامتناهية من الأكوان الممكنة لاتتظمن بالضرورة وجود عالم كعالمنا. من هنا وجود الأكوان الممكنة لايساعدنا على تفسير لماذا يوجد عالمنا بالذات.كما تعاني نظرية ديفز من مشكلة أساسية،هي أنها غير علمية. فمهما كانت بنية الحياة تفسرها نظرية ديفز على انها كذلك بسبب أن هدف المبدأ الطبيعي الخالق للحياة، هو أن يخلقها كذلك. بالنسبة إلى هذه النظرية، بنية الحياة هي هذه البنية دون بنية أخرى، بسبب المبدأ الطبيعي. وبذلك مهما كانت بنية الحياة يتم تفسيرها من خلال هدف المبدأ الطبيعي ما يعني أنه يستحيل أختيار نظرية ديفز، لأنها لاتحدد ما يجب أن تكون عليه بنية الحياة. لكن النظرية العلمية هي التي من الممكن أختيارها. من هنا نظرية ديفز غير علمية فالتفسير من خلال الأهداف الطبيعية (أو الروحية) تفسير غير علمي، لأنه لا يتنبأ بنبؤات محددة فيستحيل أختباره. ففي حال كانت الحياة غير موجودة او في حال كانت موجودة لفسرنا ذلك من خلال هدف المبدأ الطبيعي، وبذلك لايتنبأ هذا المبدأ الطبيعي بعدم وجود الحياة أو بوجودها وبذلك يخسر علميته.



الأحد، 24 مايو 2009

السوبر حداثة : الحرية و النهضة


السوبر حداثة : الحرية و النهضة

حسن عجمي

تعتبر الحداثة أن الكون محدد لذا من الممكن معرفته، بينما تقول ما بعد الحداثة أن الكون غير محدد ولذا من غير الممكن معرفته لكن السوبر حداثة تختلف عنهما لآنها تجمع مابين إمكانية المعرفة ولامحددية الكون. نرتحل هنا إلى بعض عوالم السوبر حداثة ونظرتها إلى الحرية والنهضة.

الحرية

تكمن الحرية السوبر حداثية في أن يكون الإنسان غير محدد في ماهيته، وغير محدد في صفاته و هويته و في أفكاره و رغباته ومشاعره. هكذا يتمكن من خلق ذاته باستمرار فيتحرر بذلك من كل ما يحدده.
بالنسبة إلى السوبر حداثة، اللامحدد يحكم العالم. تقول السوبر حداثة إن الكون غير محدد لكن رغم ذلك من الممكن معرفته لأن من خلال لامحدديته من الممكن تفسيره. مثل ذلك أنه من غير المحدد أية نظرية علمية هي النظرية الصادقة، لذا من الطبيعي أن توجد نظريات علمية عديدة كلها ناجحة في تفسير الكون رغم اختلافها وتعارضها كنظريتي النسبية لأينشتاين ونظرية ميكانيكا الكم. مثل آخر على تطبيق السوبر حداثة هو أن الإنسان غير محدد ماهو، لذا ينجح الإنسان في التأقلم والتكيف مع ال
ظروف المختلفة فيتمكن من التطور والاستمرار على قيد الحياة. من المنطق ذاته، تعتبر السوبر حداثة أن الحرية كامنة في لامحددية الإنسان. فمتى كان الإنسان غير محدد، يتمكن حينها من التحرر من كل ما يحدده من داخله أو خارجه. حين يكون الإنسان غير محدد يستدعي ذلك ضرورة أن يحدد ذاته بإستمرار، وبذلك يغدو هو المتحكم في خلق ماهيته وهويته وأفكاره ورغباته ومشاعره فيضمن حريته.
على هذا الأساس، تحل السوبر حداثة مشكلة فلسفية أساسية ألا وهي : إذا كانت الحرية كامنة في قيامنا بأفعال على ضوء أفكارنا ورغباتنا ومشاعرنا، إذن نبقى غير أحرار بسبب أن أفكارنا ورغباتنا ومشاعرنا محددة من قبل ماهو خارجنا كالمجتمع أو محددة من قبل النيورونات في أدمغتنا التي تتحكم فينا ولانتحكم فيها. وحل السوبر حداثة هذه المشكلة الفكرية هو التالي:
بالنسبة إلى السوبر حداثة تحيا الحرية في أن نكون غير محددين ما يضمن أن نكون نحن من نخلق ذواتنا وأفكارنا ومشاعرنا ورغباتنا باستمرار وبذلك نتحرر منها. من هنا، و إن كانت أفكارنا ورغباتنا ومشاعرنا وذواتنا محددة من قبل المجتمع أو من قبل البيولوجيا، نحافظ على حريتنا لأننا تحررنا من ذواتنا وأفكارنا ورغباتنا من جراء أن نكون غير محددين.
بكلام آخر، إذا كنت غير محدد من أنا فسوف أتحرر من نفسي وبذلك أتحرر من كل ما يحددها أكان المجتمع أو التاريخ أو الجسد البيولوجي . هكذا لابد من أن نتحرر من أنفسنا أولاً لكي نتحرر من الآخرين ومن الأسباب الطبيعية المتحكمة فينا. بالإضافة الى ذلك، كل من السوبر مستقبلية و السوبر أصولية تضمن الحرية لنا. بالنسبة إلى السوبر مستقبلية ، التاريخ يبدأ من المستقبل. مثل ذلك أن نحلل الحقيقة على إنها قرار علمي في المستقبل، ولأن الحقيقة قرار علمي في المستقبل، والمستقبل لم يتحقق بعد كلياً ، إذن لابد من السعي الدائم والبحث المستمر عن تحديدها، وبذلك نضمن استمرارية البحث المعرفي والعلمي، وهذه فضيلة معرفية. الآن، بما أن الحقيقة بالنسبة إلى السوبر مستقبلية هي قرار علمي في المستقبل، والمستقبل لم يتحقق بعد بل يعتمد علينا في تحقيقه ، إذن الحقيقة غير محددة ، وبذلك تعتمد علينا في تحديدها. هكذا تضمن السوبر مستقبلية تحررنا من الحقيقة. فالحقيقة محددة في المستقبل فقط لأنها قرار علمي في المستقبل، وبذلك تعتمد الحقيقة علينا كي نحددها ما يضمن أننا نحن من نخلقها وبدلاً من أن تخلقنا، وبذلك نضمن حريتنا.
إذن من المنطق ذاته ، تؤكد السوبر أصولية على أن الأصول المعرفية والدينية محددة فقط في المستقبل، وبذلك هي غير محددة في الحاضر والماضي ما يضمن تحررنا منها، بالنسبة إلى السوبر أصولية، نحن من نصنع التراث بدلاً من أن يصنعنا، وبذلك نتحرر من دون أن نلغيه. لكن اليوم نحن سوبر متخلفون لأننا رفضنا العلم والمنطق، ونستخدم العلوم من أجل التجهيل. على هذا الأساس لا نستطيع أن نتحرر من سوبر تخلفنا إلا من خلال قبول العلم والمنطق ومشاركة الحضارة في إنتاج العلوم والأفكار الجديدة. حينها فقط تتحقق إنسانيتنا فنغدو أحرارا.
إذن هل المعرفة تحررنا ؟ هذا يعتمد على طبيعة المعرفة. فالمعرفة الغير محددة تحررنا لأنها غير محددة، ما يدفعنا إلى الإستمرار في البحث عنها فنتحرر من يقينياتها المخادعة. العلم عملية تصحيح مستمرة ، وبذلك لا يقينيات في العلم. من هنا العلم يحرر الشعوب فيبني الحضارات. أما إذا كانت المعرفة محددة فسوف تسجننا في يقينياتها، وبذلك يتعصب كل فرد لمعتقده. فنقع في السوبر تخلف. من هنا المعرفة المحددة تقتل الحرية، أما المعرفة الا محددة فتضمن الحرية. بالنسبة الى السوبر حداثة، المعرفة غير محددة ما يستدعي تحديدها من قبلنا نحن وبذلك نتحرر من يقينياتنا الكاذبة.

النهضة

لكن ماهي النهضة وكيف من الممكن خلقها ؟ تجيب السوبر حداثة بأن النهضة تحيا في اللامحدد، وسيتم تكوينها من خلال اعتماد اللامحدد في التصرف والتفكير.
بمعنى آخر ، الشعوب التي تمر في حالة النهضة هي الشعوب التي يسيطر اللامحدد على أفعالها وفكرها. بالنسبة إلى السوبر حداثة اللامحدد ينجح ويبقى،أما المحدد فيفشل ويزول . هذا لأن الشيء غير المحدد يتمكن من التكيف والتأقلم مع المتغيرات المختلفة لكونه غير محدد، وبذلك يضمن نجاحه واستمراره ما يجعله يحقق نهضته، أما المحدد ولكونه محدداً لايتمكن من التكيف مع المتغيرات المتتالية، وبذلك يفشل في تحقيق أي نجاح و استمرار ما يؤدي الى تخلفه وزواله.
تتصف الظواهر النهضوية بأنها غير محددة ما يجعلها قادرة على الاختلاف والتكيف والنجاح. فمثلا، عندما يكون العلم غير محدد ما هو، حينها ينشأ الجدل المستمر حول ما العلم؟ وما يدفع الأفراد نحو أن يصبحوا علماء وفلاسفة يناقشون مسألة ما العلم ؟ هكذا من لامحددية العلم وإعتباره غير محدد تنموا طبقة العلماء والفلاسفة التي لاغنى عنها كي توجد النهضة. من المنطلق ذاته، عندما يكون النظام السياسي والاقتصادي غير محدد ما هو ؟ وما يجب أن يكون ، لابد حينها أن تزدهر مناقشة ما النظام السياسي والاقتصادي الأفضل، فتنموا بذلك طبقة الساسة والمفكرين الإجتماعيين الضرورية لقيام النهضة. وهذا ما يصدق ايضا على الظواهر المختلفة. أما إذا كان من المحدد ما العلم ؟ وما النظام الأفضل؟ حينها لن يدور أي نقاش ولن يحدث أي اختلاف حول ما هو العلم وما هو النظام الأفضل ، وبذلك تسود الدكتاتورية ويسيطر الغيب. لامحددية الظواهر تدفع نحو تحديدها ما يخلق التنوع والإختلاف في الفعل والفكر الإنساني، وما يضمن بدوره حرية التصرف والتفكير. فلا نهضة من دون علم وحرية . ولاعلم ولا حرية في ظل سيطرة المحدد . فاذا كان من المحدد ما المعرفة مثلاً؟ حينئذ ما علينا سوى أن نأخذها من هذا المصدر أو ذاك، وبذلك يتوقف بحثنا عنها وتموت العقول .لا محددية الإنسان أساس إبداعه وحريته. وحده المحدد قاتل الإنسان لأن إنسانية الإنسان كامنة في لامحدديته.








الأحد، 17 مايو 2009

الكاتب حسن عجمي : التفسير الظاهري للدين لا يكفي


الكاتب حسن عجمي:

التفسير الظاهري للدين لا يكفي



يوحي عنوان كتاب حسن عجمي "السوبر اصولية" بنظرية جديدة في قراءة الحركات الاصولية، بتجاوزها ما هو سائد حتى الآن. تظهر الصفحات الاولى أننا امام عنوان اضخم بكثير من المحتوى، حيث لا يغطي سوى فصل واحد من الكتاب، فيما يتركز القسم الاكبر والاهم منه حول "الدلالة والمعنى واللغة في التراث الاسلامي". مع ذلك يحاول الكاتب ان يقدم مفهوما حول السوبر اصولية قد يتفق الواحد معها او يختلف فيراها غريبة عن المألوف.يعرّف عجمي السوبر اصولية بأنها "الاتجاه الذي يحاول الخروج من الاصولية والحداثة"، ويحدد الدين مفتاحاً لتعريف نظريته فيعتبر ان الاصولية ترى الى الدين من منطلق المطلقات والثوابت وامكان تأصيل المعتقدات الدينية والبرهنة على صدقها، فيما تنظر الحداثة الى الدين نظرة بعيدة عن المطلقات والثوابت بتأكيدها التغير الدائم في المفاهيم، ومنها الدينية. اما السوبر اصولية فتقول نظريتها حول الدين بأنه مطلق وثابت في المستقبل فقط، ولا يمكن ان تتم البرهنة على صدقية هذا الدين إلاّ في المستقبل، فيما يبدو الدين، حاضراً وماضياً، في حال من التغير يستحيل معها البرهنة على صدقه. هذا القول للسوبر اصولية حول ثبات الدين في المستقبل يوصل الى المحافظة على "دينية الدين كونه في التعريف هو الله". وتؤمن السوبر اصولية بأن القرآن والسنّة هما مصدر المعارف والاحكام الحق في المستقبل فقط، اي في الآخرة وعند "مجيء المخلص"، وهو ما يعني ان الدين والاسلام منه غير قائمين في الحاضر والماضي، وسينوجدان في المستقبل البعيد الذي لن تصل اليه اجيالنا. ويكمل عجمي ان السوبر اصولية تنادي بتطبيق مبدأ اللامحدود على جميع الميادين كسبيل لادراك الظواهر والحقائق في الحاضر والماضي. ولدى تطبيق هذه النظرية على الاسلام، يتبادر سؤال منطقي حول عدم القدرة على تحديد من هو المسلم، هل هو المؤمن بقوة عليا ام المؤمن بالشهادتين، وهل من الملزم له اقامة الشعائر الاسلامية ليصبح مسلما حقا. يطبق عجمي نظريته في السوبر اصولية على الاخلاق فيرى انها قائمة في المستقبل فقط، ولذلك هي غير محدودة في الحاضر والماضي. بالنسبة الى هذه السوبر اصولية، ليس هناك تحديد للاخلاق ولطبيعة اي عمل، وهل هو اخلاقي ام غير اخلاقي، مما يسمح بالاختلاف والتغير في فهم معنى الاخلاق. يتطرق القسم الرئيسي من الكتاب الى مسألة الدلالة والمعنى واللغة في التراث الاسلامي كما طرحها عدد من الفلاسفة والفقهاء. أكد عبيد الله بن الحسن، قاضي البصرة، ان "كل ما جاء به القرآن حق ويدل على الاختلاف، فالقول بالقدر صحيح وله اصل في الكتاب، والقول بالاجبار صحيح وله اصل في الكتاب"، مما يعني احتواء القرآن معاني مختلفة ومتضادة. وعلى هذا الاساس، من الخطأ تكفير اي موقف كان حول هذا الموضوع. اما السيرافي فدافع عن الدين الاسلامي من خلال نقده للمنطق والفلسفة اليونانية معتمدا نظرية النسبية في المعرفة التي رأى اختلافها مع اختلاف اللغة، فيما تحدد اللغة المعرفة. وهذا يعني له ان اللغة العربية المتمثلة في القرآن والسنة تحدد المعرفة بالنسبة الى العرب والمسلمين.اعتمد الزمخشري والاسيوطي فكرة كون اللغة مصدر المعرفة للبرهنة على صدق الاسلام، وعلى أن معظم ابواب اصول الفقه ومسائله تعتمد في بنائها على علم الاعراب الخاص باللغة العربية. قدم الشافعي نظرية في المعنى فقرر ان السياق يحدده، لذلك خاطب الله العرب بلسانها، فيما ذهب ابو بكر الرازي الى نقد الدين الاسلامي ورفض وجود النبوات، واعتبار القرآن حاويا التناقضات والخرافات. اتى موقفه هذا اعتقادا منه ان الجمل اللغوية لديها معان ظاهرة فقط، ولا تملك معاني باطنية تلغي ما هو ظاهر. في مقابل ذلك رأى اخوان الصفا ان اللغة ذات المعاني هي مصدر المعرفة، وان اختلاف اللغات يفسر اختلاف الآراء والديانات، وان التفسير الباطني للدين هو التفسير الصحيح لمفاهيمه وآياته.شكلت اللغة ميدان صراع بين المعتزلة والاشاعرة، فقط ربط المعتزلة نظريتهم في اللغة بقضية خلق القرآن. فالكلام، اي اللغة، صوت وحرف، والله متكلم، والاصوات فعل اجسام، لذلك من غير المستغرب ان يكون القرآن فعل اجسام. وبما ان اللغة ليست ازلية، وان القرآن لغة، اذن القرآن مخلوق وليس ابديا. في مقابل ذلك ذهب الاشاعرة الى ان اللغة معنى قائم في النفس، وبما ان لغة الله، اي القرآن، قائمة في نفس الله، وبما ان نفس الله ازلية، لذا فإن القرآن ازلي وليس مخلوقا. ذهب الكندي الى القول باستقلالية الالفاظ عن السياق الخطابي، مما يعني ان فهم النص، وتفسيره، ومن ضمنه القرآن، لا يعتمد على السياق النصي والقرآني، فيما أكد كل من الفارابي وابن سينا ان معاني الآيات القرآنية تعتمد على ادراكنا او تعقلنا اكثر مما تعتمد على السياق القرآني واسباب النزول وتفاسير السلف، وهذا يصل بهما الى القول بأن التفسير الباطني للدين هو التفسير الصحيح. وشدد الغزالي على أفضلية الجمع بين التفسيرين الظاهري والباطني للدين. اما ابن عربي فأشار الى ان ادراك معاني القرآن او الدين انما يتم من خلال تخيل الأشياء التي يتحدث عنها القرآن او الدين. التقى ابن رشد مع كثير من هذه الاحكام الا انه أكد دور القوى العقلية وقوى الادراك المختلفة في معرفة المعاني، وهو حكم وصل به الى الدعوة الى التأويل الباطني للنص الديني.لا تزال قضايا اللغة وتفسير النص الديني حيوية وراهنية، تكتسب اهميتها من "اكتساح" النظرة السطحية الى النص الديني الذي يتطلب اخضاعه للتحليل العقلاني، بما ينزع عنه الاسطرة والخرافات وتبرير ايديولوجيا العنف، ويضعه في موقعه الروحي والاجتماعي حيث يجب.

خالد غزال







الرابط : http://www.aljaml.com/node/11906

السبت، 9 مايو 2009

خصخصة الثقافة خصخصة الإنسان


خصخصة الثقافة

خصخصة الإنسان


حسن عجمي

إنه زمن خصخصة الثقافة والإنسان . بعد صراع دام بين المذاهب الإيديولوجية المختلفة سيطرت الفكرة القائلة بأن الجشع هو الأساس في تطوير الحضارات الإنسانية . فكلما ازداد جشعنا ازددنا في تحسين أدائنا كي نكسب أكثر . من هنا إذاامتلك فرد مؤسسة عامة سوف يبذل جهداً أكبر في تطويرها من أجل أن يكسب مالاً أكثر وسلطة أوسع. وبذلك الخصخصة، بالنسبة الى هذا التفكير، هي الخلاص الحقيقي والوحيد كي تبقى مجتعاتنا وتتطور. وهذا ما يصدق في كل ميدان وحقل من وجهة نظر هذا النموذج الفكري. ما أدى إلى تطبيق الخصخصة على الإنسان ذاته وعلى الثقافة بوجه عام. فتحول الإنسان خاصة إلى هذا الطاغية أو ذاك. وتحولت الثقافة إلى سلاح في يده.
تخصخص الإنسان بالفعل؛ لقد أصبح الإنسان مجرد فكرة غير متحققة في الواقع. فحيثما تنظر لاترى إنساناً ولن تراه إلا إذا ربطته بقبيلة مذهبية أو طائفية أو منطقية أو عرقية. هكذا أمسى الإنسان متخصخصاً ولم يعد قيمة وكياناً في حد ذاته. أما الثقافة فتخصخصت الى أقصى حد. فلا يوجد مثقف مستقل وأن حاول. وإذا نظرت جيداً لن تراه إلا جندياً في جيش هذا الطاغية الكبير، أو ذاك الطاغية الصغير. فانتشرت العصابات حيث كل وسيلة إعلامية تكتفي بأعضاء عصاباتها وتحارب العصابات الثقافية الأخرى، وتغلق الأبواب والنوافذ على كل جديد ومغاير. أصبح ((المثقف)) جاسوساً لهذا النظام أو ذاك، و موظفاً في هذه السفارة أو تلك. هكذا تخصخص المثقف وضاعت الثقافة. إنه زمن السوبر تخلف. لكن أثبتت الخصخصة فشلها. فبعد الإنهيار الاقتصادي الهائل في الغرب، وخاصة في أمريكا، فتبين ما كنا نعرف، ألا وهو أن الجشع لايبني الحضارة والإنسان بل يدمرهما. وبما أن الخصخصة تعتمد على فكرة أن الجشع مفيد، إذاً من الطبيعي أن تفشل الخصخصة وتسقط في ثقبها الأسود.
وكما أن خصخصت المؤسسات أدّت الى كارثة، كذلك سوف تؤدي خصخصة الثقافة والإنسان إلى زوالهما. يخسر الإنسان إنسانيته، متى كان عبداً لفكرة؛ عبيد الأفكار عبيد الطغاة. والخصخصة كآلية اقتصادية واجتماعية وثقافية مجرد فكرة تستعبد شعوب الأرض اليوم. لكنها سوف تحتضر وسوف تموت عما قريب. فلا يوجد إنسان مع خصخصة ثقافته. فالخصخصة تعني التبعية لأسياد الشريكات والمؤسسات الثقافية والاقتصادية إلخ ما يتضمن بالضرورة أن نغدو عبيدا لتلك المؤسسات.
لقد أمسى المثقف عبداً للسيد المرحوم، سيد المال والسلطة. فتحولت الكلمة إلى قطعة نقدية لشراء قليل من الماء والخبز، ولنشر التخلف والجهل بين الناس. لقد عبرت اللغة العربية عن هذه العلاقة الجدلية. فالنقد يشير الى المال كما يدل على تحليل الخطاب وتفكيكه. هكذا كان مصير المثقف العربي منذ البداية أن يكون خادما لسلطان الجوع والسيف. لغتنا أصدق منا؛ فقط نحن الكاذبون الصغار. أما الأكاذيب الكبيرة فصانعة الحضارات. ولانقوى على صياغتها أو النطق بها. إنه عصر السوبر تخلف الفائق. حيث الجهل هو القيمة الأعلى. فكلما كان الفرد منا أكثر جهلاً وتخلفاً، كلما ارتقى أكثر في مناصب المجتمع المزعوم والدولة المفترضة.

خصخصة الدين خصخصة الله


حين خصخصنا الدين خصخصنا الله. أصبح لكل دين مؤسساته الخاصة برئاسة هذا الأمير أو ذاك. وبمجلس إدارة ورأسمال معين ومشاريع تجارية وثقافية واجتماعية وسياسية متنوعة مما أدى الى تنافس المؤسسات المختلفة ضمن الدين ذاته والمذهب نفسه. و أمسى الإيمان شهادة يقدمها رجال الدين. ومن دونهما يفقد الإنسان دينه وحقوقه الشرعية والمدنية. وظهر لكل مذهب ديني جيشه الخاص المأمور بمجلس وزراء إلهيين يصنعون المعجزات الكبرى والصغرى معاً. فلا يحق لفرد أن يكتب أو يتكلم خارج سياق دينه أو مذهبه. كما لايحق له أن يسكن في مناطق المذاهب أو الطوائف الأخرى. وإلا سيبقى غريباً بين الغرباء. لكل قبيلة مذهبية أو طائفية مدارسها وجامعاتها ووسائل إعلامها وأمنها الخاص؛ ووظيفتها جميعاً كامنة في محاربة القبائل المذهبية والطائفية الأخرى. عندما تخصخص الدين خسرنا الله. وسيطر الإرهاب والإقتتال الداخلي المستمر. فلادين مع الخصخصة في زمن تخصخص الدين لم يتمكن الله سوى أن يتخصخص أيضاً فتتحول الى آلهة مختلفة ومتصارعة. فإله الشيعة بات مختلفا عن إله السنة، وأنقسم الله على نفسه، فأصبح إله المسلمين منافساً لإله المسيحيين. هكذا لكل قبيلة إله. لم يمت الله لكننا قتلناه.
خصخصة العقل

في زمن الخصخصة الفائقة والشاملة، لامجال سوى أن يتخصخص العقل. فأمسى العقل منقسما على ذاته؛ فثمة عقل ديني في مقابل عقل علمي، وعقل فلسفي في مقابل عقل صوفي، وعقل عربي في مقابل عقل غربي، وعقل إسلامي في مقابل عقل مسيحي إلخ، وسياق هذه
عبارة يدل على أن خصخصة العقل لاتصطحب معها سوى الصراع والحروب. فالمقصود من الخصخصة هو التقسيم، ومع كل تقسيم تنافر فقتتال. هكذا أصبحت الخصخصة سلاحاً أساسياً من أجل نشر الكراهية والصراع بين الشعوب، وظمن الشعب الواحد. وكل منا لاينتمي إلى عقل معين ويعادي العقول الأخرى، يغدو خائناً. لقد أمسى العقل سلعة في سوق الخضار الكوني. واقتنع العرب بتفوق الخصخصة حتى أنهم يعرضون أوطانهم للبيع، لكنهم لم يجدوا أحداً ليشتريها فأصابهم اليأس واكتفوا بالدعاء المخصخص بدوره. كما أننا نحن العرب فشلنا في خصخصة الإنسان، لأننا حين بحثنا عنه بيننا لم نجده. فالإنسان مجموع حقوقه، كحق أن يعيش عيشاً كريماً، وحق أن يكون حراً. لكننا نفتقر إلى الحقوق الإنسانية، وبذلك لايوجد إنسان بيننا. على هذا الأساس، نحيا في محاولات أن نتخصخص، ولأنها محاولات فاشلة دوماً، افتتحنا عصر الخصخصة الفائقة؛ ففشلنا في الخصخصة خصخصة فاشلة.





الاثنين، 4 مايو 2009

الكاتب حسن عجمي : كل ما يفكّر فيه الإنســــان هو صـادق



الكاتب حسن عجمي


كل ما يفكّر فيه الإنســــان هو صـادق

يواصل الباحث اللبناني حسن عجمي الحفر في مشروعه الفلسفي «السوبري» ان جاز التعبير والذي انطلق تقريبا مع كتاب «السوبر حداثة» الصادر عام 2005 وتواصل مع عناوين «السوبر مستقبلية» و«السوبر معلوماتية» وايضا «السوبر تخلف» وهو ما يعتبر كانتاج فكري فلسفي متراكم وفق ايقاع سريع يصعب ان يضاهيه فيه احد عربيا .
ويركز حسن عجمي هذه المرة الذي تبنته وفي اطار المشروع الدار العربية للعلوم على ما يسميه بالسوبر مثالية ومن خلالها توقف عند مفاهيم عديدة على غرار الهوية السوبرمثالية والمعرفة السوبرمثالية والوعي السوبرمثالي وكذلك اليقين والقيمة والعلم والكون والانسان السوبرمثالية.

يقول الباحث في اصداره الجديد ان السوبرمثالية تنص على ان كلما يفكر فيه الانسان هو صادق لانه صادق في عالم ممكن او آخر. بمعنى انه بالنسبة الى السوبرمثالية اذا فكر الانسان بشيء اذن ذاك الشيء صادق في كون ممكن وهو موقف يصفه عجمي بالانسانوي حيث يغدو الانسان محور الممكنات والعوالم الممكنة الموجودة فعلا.
ويضيف الباحث في هذه النقطة ان السوبرمثالية تقول ان الفكرة تخلق صدقها الممكن وكل ما يفكر فيه العقل من دون خرق المنطق كعدم الوقوع في التناقض يوجد ما يطابقه في عالم ممكن. اما الفرق الاساسي بين المثالية والسوبرمثالية فيتمثل في انه بالنسبة الى المثالية العقل يخلق الموجود لكن بالنسبة الى السوبر مثالية اذا فكر العقل، وُجد الموجود والعكس لارتباط العقل والوجود رياضيا. يقول عجمي «الان السوبرمثالية تدرس كيف ان العقل يحدد الاكوان الممكنة، لكن السوبرحداثة تدرس الاكوان الممكنة بالذات ومن هنا لا نستطيع ان نفرق بين ميدان السوبرمثالية وميدان السوبرحداثة».
وفي خصوص مفهوم الهوية السوبرمثالية ذكر الباحث ان هوية الانسان غير محددة لكن العقل يحدد هوية الانسان من خلال ادراكه خصوصا ان حتى ادراك الآخرين ضروري لوجود هوية الافراد، لذلك فانه رغم أن الهوية غير محددة في ماهيتها فهي محددة في وجودها وهذا يعني ان الهوية حقل تفاعل بين المحدد واللامحدد.
وقد يتساءل القارئ كيف يتم التعاطي مع الفن والادب والفكر من منطلق السوبرمثالية؟
يجيب حسن عجمي ان اي عمل ابداعي كالفن والادب والشعر والفكر فانه ينقسم الى عنصر محدد وعنصر آخر غير محدد وضرب الباحث في هذا السياق مثالا يتعلق بالخطاب الصوفي مبينا كيف ان الكفر والايمان معا في خطاب الحلاج وغيره من المتصوفة وخاصة بادعائهم بحلول الله في ذواتهم.. بل ان الحلاج ذاته قد اعلن كفره في بعض شعره ونثره: «هكذا يوجد المحدد كما يوجد اللامُحدد في التصوف فمن المحدَّد ان التصوف عملية ايمان بالله لكن من غير المُحدد في الآن ذاته ما اذا كانت النتيجة هي الايمان بالله. وكلما زادت عملية حب الله في التصوف والايمان به زادت لامحددية خطابه».
ومن هذا المنطلق استنتج الباحث ان ازدياد عملية الفن للفن ادت الى التجريد في الفن ومن ثم الى اعتبار ان اية أداة كعلبة الطماطم مثلا قد تغدو فنا اذا وضعت في متحف فني.


آمال موسى

تونس ـ الصباح









الرابط : http://www.assabah.com.tn/pop_article.php?ID_art=3279





السبت، 2 مايو 2009

حسـن عجمـي: أنـا غيـر محـدَّد إذاً أنـا موجــود



حسـن عجمـي: أنـا غيـر محـدَّد إذاً أنـا موجــود




يختلط الأمر على الذي يعرف حسن عجمي: هل هو شاعر ام مفكر يسعى إلى بناء عمارة فكرية مميزة ام مستكشف لميادين جديدة من التفكير العلمي والأدبي سواء في «مقام الراحلين» (شعر ـ 2000) او في «معراج المعنى» (نقد ـ 2001) او في «مرايا العقول» ـ الشعر العلمي (2003). ومنذ كتابه «مقام المعرفة ـ فلسفة العقل والمعنى» (2004) اتخذ انتاج عجمي طابعاً فكرياً يستند الى معالجة القضايا الفلسفية معالجة تتراوح بين المنهج التحليلي والمنهج التفسيري. ثم جاء كتابه «السوبر حداثة» (2005) ليعالج الأكوان الممكنة واللامحدد، ثم «السوبر مستقبلية» _2006) قائلاً إن التاريخ يبدأ من المستقبل، ثم «السوبر أصولية» (2007) التي تعتبر الاصول الدينية محددة في المستقبل فقط، وأننا نحن ـ الحاضر نصنع التراث، ثم «السوبر معلوماتية» (2007) «فالسوبر تخلف» (2007)، وأخيراً «السوبر مثالية» (2007). واليوم يطل علينا عجمي بكتابه الجديد «الميزياء» بعد ذلك الحشد من «السوبرات» مفتتحاً ميادين معرفية تتناول العلاقة بين الجيزياء (ما يجوز) والحيزياء (الحيز). وفي ركن هادئ من مقاهي الروشة التقينا بحسن عجمي وكانت هذه المأدبة من الاسئلة والاجوبة:
أنت لم تتجاوز الثامنة والثلاثين، ما قصة هذا السيلان من الكتب والمؤلفات؟ هل هو هوس في الكتابة والتأليف الفلسفي فكل ثلاثة أشهر يصدر لك كتاب فلسفي جديد؟

- أكتب لأعبر عن إنسانيتي. لذا من غير المستغرب الكم الكبير من الكتب التي اؤلفها لان الإنسان في ذاته متنوع ومتشعب وبلا حدود. مهنتي هي الكتابة وليس من السهل الكتابة في الفلسفة. طبعاً بالنسبة إليّ المسألة سهلة، لأنني تمرنت على التفكير الفلسفي في الجامعة الاميركية في بيروت ثم في جامعة كولومبيا في نيويورك.
نلاحظ غياباً لذكر المراجع الفلسفية في كتاباتك مع أن ذكر المراجع الفلسفية أمر ضروري لكل مفكر او فيلسوف.
ثمة مراجع فلسفية وعلمية في بعض كتبي. فمثلاً في كتاب «مقام المعرفة» هناك ما يزيد على مئة مرجع. وفي كتاب «السوبر أصولية» يوجد ما يتجاوز الستين مرجعاً. استخدامي للمراجع يعتمد على سياق الكتابة. بعض كتبي لا تعتمد المراجع مثل كتاب «السوبر تخلف». لان هذا الكتاب لا يعتمد على اي فكرة متداولة بين المفكرين. فالسوبر تخلف مصطلح جديد وقد عالجته ضمن معادلات رياضية ابتكارية. هذا الاسلوب من الكتابة الرياضية غير شائع لذا من الطبيعي ان لا اعتمد على اي مراجع فيه.
فلسفة جديدة
هل فلسفتك خاصة بك ام تعتمد على فلسفات آخرين تعيد صوغها بأسلوبك الخاص، بأي خصوصية تعامل مع الفلسفة؟

- أحاول ان اقدم فلسفة جديدة، ومعالمها الاساسية هي السوبر حداثة التي تضم السوبر مستقبلية والسوبر أصولية والسوبر تخلف والسوبر مثالية. على هذا الاساس ادرس الأكوان الممكنة والمستحيلة واعتمد على اللامحدد في تفسير الظواهر والحقائق. ميزة الفلسفة التي احاول طرحها هي انها مصوغة من خلال المنطق العلمي ومعتمدة على النظريات العلمية المعاصرة.
التعريفات الفلسفية هجرها الفلاسفة المحدثون واصبحت تعود الى زمن مؤسسي الفلسفة والعلوم. ما سبب العودة من جديد للتعريفات الفلسفية في كتبك؟
- الفلاسفة في العالم، قديماً ام حديثاً، لم يهجروا تعريف المفاهيم والمصطلحات الفكرية والعلمية، بل إن احدى الوظائف الاساسية للفلسفة تقديم تعاريف للمفاهيم المختلفة. وهذا ما يشترك العلم معه ايضاً. فمثلاً أينشتاين يعرف الجاذبية على انها انحناء الزمكان. لكننا نحن العرب هجرنا التفكير الفلسفي والعلمي. لذا، كان لا بد من التأسيس مجدداً، ومن العودة الى التعريفات الفلسفية.
لماذا التركيز على علاقة الفلسفة بالفيزياء بينما الفلسفة علاقتها الجوهرية بالإنسانيات والفنون؟

- الفيزياء هي الاكثر علمية بين العلوم كالكيمياء والرياضيات. من هنا كان من الضروري الاعتماد على الفيزياء لاقدم اساسا صلبا للفلسفة التي اطرحها. طبعا ما زالت الفلسفة مرتبطة بالإنسانيات وبالفنون بشكل جوهري، وقد عالجت هذا الارتباط في كتبي المختلفة، لكن انطلاقاً من الفيزياء ونظرياتها العلمية المعاصرة كنظريات ميشيو كاكو ولي سمولن وليونارد سسكين. هؤلاء الفيزيائيون يستنتجون ان الأكوان الممكنة فعلا موجودة، وهذا يقدم الاساس العلمي لأبحاثهم. ولقد درست الإنسانيات في معظم كتبي انطلاقاً من فلسفة السوبر حداثة المعتمدة على العلوم. فمثلاً الإنسان كائن غير محدد، ولهذا فهو قادر على التكيف والتأقلم مع المتغيرات مما يضمن نجاحه وبقاءه. هذه الفكرة تعتمد على مبدأ اللامحدد في ميكانيكا الكم. التكنولوجيا لا تكفي.
في الماضي كانت الفلسفة تقود العالم. اما اليوم فالتكنولوجيا تقود العالم. هل هذا السبب يجعلك تجنح للاستعانة بالعلوم لتأسيس الفلسفة من جديد؟
- التكنولوجيا وحدها لا تحكم ولا توجه العالم، بل قبول العلم وإنتاجه هما الأساس في بناء الحضارة الحديثة. فالتكنولوجيا وحدها من دون علوم ومن دون فلسفة منطقية تؤدي إلى السوبر تخلف. التكنولوجيا متاحة اليوم لنا، لكنها تؤدي الى تطوير تخلفنا، لأننا لا نشارك الحضارة الحديثة في إنتاج العلوم. ولان الفلسفة متواصلة مع العلم، فهما معا جوهر التفكير الإنساني الاصيل والمستقبلي. وعلى اساس هذا التواصل نبني حضارتنا ومجتمعاتنا. ولأننا نرفض الفلسفة خسرنا حضارتنا، ولم نتمكن من بناء مجتمعات حقيقية بل نحن منقسمون الى قبائل متصارعة ومحكومة بالأوهام.
الى أين تتجه الفلسفة اليوم؟

- لم يعد هناك فاصل جذري بين الفلسفة والعلوم، فالفلسفة اليوم تواكب مسارات العلوم وتوجهاتها والعكس صحيح. فمعظم العلماء الكبار اليوم هم فلاسفة. والعكس صحيح. والاسئلة في الفلسفة وفي العلوم اصبحت اليوم اسئلة مشتركة.

هل كتابك الصادر مؤخراً «الميزياء» بداية لسلسلة جديدة من المؤلفات تتكرر على منوال «سوبراتك» السابقة؟

- قد يكون كذلك وقد لا يكون. فأنا لا استطيع التنبؤ بطبيعة الأفكار التي سوف اعالجها. ولم يكن هناك مخطط مسبق لانتاج سلسلة «السوبرات»، بل ان كل كتاب منها استدعى تأليف كتاب آخر.
يغلب على كتبك السوبرات الست طابع البحث العلمي والمنهج التحليلي والتفسيري، بينما يغلب على كتبك الشعرية طابع التجريب المستند الى تطورات الحداثة وعلاقة الشعر بالعلوم، هل أنت شاعر ام مفكر ام الاثنان معا ام متأرجح بينهما؟
- كل الميادين الابداعية مترابطة ومتواصلة وتشكل حقلاً معرفياً وابداعياً واحداً. لذا من الطبيعي ان انتقل من الشعر الى الفلسفة ومن الفلسفة الى الشعر، وان اكتب ما يسمى بالشعر العلمي. ويستخدم الشعر العلمي مصطلحات العلم كالثقوب السوداء والانفجار العظيم. وهذا يضمن ان يكون للشعر والأدب معنى وهدف يواكب معاني العلوم وأهدافها. أما أنا فمجرد إنسان يسعى الى تحقيق إنسانيته من خلال الفلسفة والشعر معاً.

هل أنت مع ديكارت «أنا أفكر اذن أنا موجود» ام مع سارتر «أنا موجود اذن أنا افكر» أم أنت خارج هاتين النظريتين؟
- أنا مع «أنا غير محدد، اذن أنا موجود». فاللامحدود وحده هو الذي ينشأ ويبقى ويستمر لكونه غير محدد، مما يضمن نجاحه في التكيف والاستمرار. لذا، فالكون كله غير محدد ولذا هو موجود. وهذا يفسر نجاح نظرية ميكانيكا الكم التي تقول مبدأ اللامحدود.
ما مدى استفادتك من الفكر الماركسي. ام انك تميل اكثر الى فكر هيغل او كانط؟

- أحاول ان اخرج من الأفكار الفلسفية المسبقة رغم تأثري بمعظم الفلاسفة والعلماء. لقد قدم ماركس نظريته على اساس انها نظرية علمية وكان مستنداً إلى علوم عصره. اما أنا فأستند الى علوم بداية القرن الواحد والعشرين. وأنا انطلق من تاريخ العلم وتطوره وليس من تاريخ المقدس. فالعلم عملية تصحيح مستمرة.

هل هجرت العلاقة بفلسفة التاريخ الهيغلية ـ الماركسية ام ما زلت تستعين بها؟

- التاريخ يبدأ من المستقبل. هذه هي فلسفة السوبر مستقبلية المرتبطة بشكل اساسي بالسوبر حداثة. لا بد من كتابة التاريخ انطلاقاً من المستقبل بدلاً من الانطلاق من الماضي. بذلك نتحرر من سجون التاريخ ويقينياته الكاذبة.

صفوان حيدر - السفير