الجمعة، 14 أغسطس 2009

هل الحياة والعقل والكون مجرد كومبيوترات؟


التناقض لا يشكل معلومة

هل الحياة والعقل والكون مجرد كومبيوترات؟


حسن عجمي

تسيطر اليوم النظرية التي تقول إن الحياة والعقل والكون مجرد كومبيوترات متطورة. فمثلاً يعتبر الفيزيائي إربك باوم أن العقل والحياة هما عملية تنفيذ لبرامج قائمة في حمضنا النووي الموروث أي ال DNA. فكما يعتمد الكومبيوتر على على برامج معينة في تحقيق حساباته وتدفق معلوماته، كذلك تعتمد الحياة والعقل على برامج معينة تشكلها وتحكم تدفق معلوماتها. كما أن الحمض النووي ليس سوى مجموعة معلومات تكون عقولنا واجسامنا الحية، لكن البرامج الكومبيوترية ليست سوى معلومات تحدد تصرفات الكومبيوتر، وبذلك الحياة والعقل هما برامج كومبيوترية متطورة . والعديد من علماء البيولوجيا يدرسون النظام البيولوجي على أنه آلة معلوماتية وظيفتها الأساسية حفظ المعلومات وحسابها وتنفيذ أوامرها. فمثلاً، بالنسبة إليهم أدمغتنا ليست سوى كومبيوترات تسيطر على أجسامنا. هكذا الإنسان آلة كومبيوترية،ولذا من الممكن صناعة آلات شبيهة بالإنسان تماماً، بحيث ترى وتشعر وتفكر مثلنا. أما عالم الهندسة الكمية سيث لويد فيؤكد على أن الكون كومبيوتر متطور بالنسبة إليه، وكل نظام فيزيائي عبارة عن عملية حساب للمعلومات لكن الكومبيوتر هو أيضاً يتكون من عمليات حسابية تحسب المعلومات. من هنا يستنتج لويد أن الكون مجرد كومبيوتر متطور. فكل جسيم في العالم يحتوي على معلومات ويتشكل منها تماماً كالكومبيوتر.
Eric Baum What is Thought? 2004. The MIT Press. Seth
Lloyd : Programming The Universe 2007. Vintage Book. Richard Dawkins. Modern Science Writing 2008. Ox ford University Press.

لكن ماهو هذا الكومبيوتر المتطور الذي من خلاله يصف العلماء الكون والعقل والحياة؟ لابد أن يتصرف هذا الكومبيوتر كما يتصرف الكون والعقل والحياة،
وإلا لا فائدة منه؛ فإذا تصرف مثلاً كالحجارة فلن نستفيد منه حقاً. من هنا يسعى العلماء إلى بناء كومبيوتر متطور له صفات الكون والعقل والحياة. وبذلك هذا الكومبيوتر المتطور هو الكومبيوتر الذي يملك الصفات والتصرفات ذاتها التي يملكها الكون والعقل والحياة هذا يرينا أن الكومبيوتر المتطور يتم تحليله من خلال مفاهيم الحياة والعقل والكون. لكن الإتجاه الفكري السابق يحلل الكون والحياة والعقل من خلال الكومبيوتر المتطور. من هنا يقع الإتجاه السابق في الدور، وهو تحليل الشيء بالشيء ذاته كتعريف الماء بالماء، فهو يعرف الكون والحياة والعقل من خلال الكومبيوتر المتطور. لكن الكومبيوتر المتطور معرف من خلال الكون والحياة والعقل، وبذلك تم تحليل الكون والحياة والعقل من خلال المفاهيم ذاتها، وبذلك سقط الإتجاه الفكري السابق في الدور المرفوض منطقياً. هكذا يفشل تحليل الكون والعقل والحياة على أنها كومبيوترات. بالإضافة إلى ذلك يواجه النموذج السابق مشكلة أساسية أخرى هي التالية: بالنسبة إليه، الكون والحياة والعقل مجرد معلومات وتدفقها وبذلك كل الأشياء مجرد برامج كومبيوترية. ولكن ماهي المعلومات؟ ما الذي يجعل هذا الشيء أو ذاك معلومة بدلاً من معلومة؟ لا بد من تعريف ماهي المعلومات لنتمكن من تميزها عما ليس بمعلومات ليحق لنا حينها أن نعرف الأشياء كالكون والحياة والعقل على أنها معلومات. فلو أننا حللنا الكون والحياة والعقل على أنها معلومات، ولم تعرف ماهي المعلومات، حينها لن نكون قد قدمنا إيضاحاً لها هو الكون والحياة والعقل، بل سنقع في حيرة أكبر، ألا وهي مشكلة معرفة ما هي المعلومات. من هنا من الخطأ إعتبار المعلومة مفهوماً أولياً لا يحتاج إلى تحليل، وعلى ضوءها يتم تحليل المفاهيم الأخرى كالكون والعقل والحياة. فمفهوم (المعلومة) اكثر غموضاً من مفاهيم الكون والحياة والعقل. ومن دون تعريف معنى مدلول (المعلومة) لن ننجح في تحديد هويتها، لكن لا يوجد شيء من دون هوية. لذا نحتاج بشدة إلى تعريف ماهي المعلومة كي يحق لنا تحليل الأمور الأخرى على ضوءها.
توجد أشياء تشكل معلومات وأشياء أخرى لاتشكل معلومات لذا لابد من تعريف ماهي المعلومات. فمثلاً، التناقض لا يشكل معلومة أو معلومات، لأنه تناقض يتضمن القضية ونقيضها فلا يفيدنا في تقديم أية معلومة. على أساس كل هذا، لابد من معرفة ماهي المعلو
مة وكيف تختلف عما هو ليس بمعلومة. ولكن إذا عرفنا الكون وكل ما فيه من أشياء وأحداث وحياة وعقول على أنها مجموعات من معلومات. حينها نكون قد عرفنا كل الأشياء من خلال المعلومات وبذلك لا مجال لدينا كي نعرف المعلومات من خلال أي شيء آخر. هكذا نقع في مشكلة عدم مقدرتنا على تقديم أي تعريف لمفهوم المعلومة. وبذلك نفشل في تحليل كل الأشياء، كالعقل والحياة والكون، من خلال المعلومات التي لانملك تحليلاً لها. من هنا من الخطأ تعريف الكون والعقل والحياة على أنها مجرد معلومات، فبرامج كومبيوترية. بل الأصدق أن نحلل المعلومة من خلال مفاهيم الكون والعقل والحياة. مثل ذلك أن أي شيء يشكل معلومة، فقط في حال كان جزاً من الكون أو من الحياة أو العقل في هذه الحالة، التناقض لا يشكل معلومة لأنه لا يتحقق في الكون والحياة والعقل كونه تناقضاً. هكذا ينجح التحليل السابق للمعلومة في التعبير عن حقيقة التناقض ليس معلومة وبذلك يكتسب هذا التحليل للمعلومة قدرته التعبيرية فمقبوليته. خلاصة القول هي أنه من الخطأ تحليل الكون وكل ما فيه من عقول وحياة أشياء وأحداث، على أنها معلومات، بل الموقف الأصح هو أنه لابد من تحليل المعلومات من خلال الكون والعقل والحياة.









الأحد، 9 أغسطس 2009

جدل وخلاف بين كبار الفيزيائيين


سيرة أفكار روجر بنروز و ستيفن هوكنغ

جدل وخلاف بين كبار الفيزيائيين




حسن عجمي

روجر بنروز فيزيائي وعالم رياضيات وفيلسوف. أنتج فرضية الرقابة الكونية، التي تقول إن الكون يحمينا من اللامتوقعات القائمة في قلب الثقوب السوداء من خلال إخفائها عنا خلف أفق الحدث Event horizon. لقد اهتم بنروز بدراسة النظرية النسبية لأينشتاين، ما ساهم بقوة في تعميق فهمنا حول الثقوب السوداء. وأصدر عدداً من الكتب المثيرة حول علاقة الفيزياء بالوعي الإنساني. فكرته الأساسية هي أن قوانين الفيزياء المعروفة لاتنجح في تفسير ظاهرة الوعي، فأصر على وجوب خلق فيزياء جديدة قادرة على ذلك . بالنسبة إلى بنروز، الكومبيوتر ليس عقلاً لأنه نظام حتمي يعمل على ضوء الحسابات المحددة، على نقيض من العقل. يقول إن العقل الإنساني ليس حسابياً بشكل
كامل، وبذلك يستحيل تقليده من قبل كومبيوتر معقد. على هذا الأساس يستنتج بنروز أن العقل ليس (كومبيوترا). ومن منطلق شكه بصدق ميكانيكا الكم كونها تصور الكون على أنه غير حتمي، يطالب بنروز بصياغة نظرية علمية جديدة توحد بين النظرية النسبية لأينشتاين ونظرية ميكانيكا الكم وتتجنب مشكلة لاحتمية الكون.
أما ستيفن هوكنغ فهو فيزيائي وعالم رياضيات وفيلسوف. اشتهر باضافاته العلمية القيمة في ميادين الكوزمولوجيا
والجاذبية الكمية وخاصة في دراسة الثقوب السوداء. ولقد عمل مع روجر بنروز على دراسة الثقب الأسود، وإيضاح خصائصه من منطلق نظرية النسبية لأينشتاين. كما طرح هوكنغ نظرية علمية تقول، إن الثقوب السوداء تبث الإشعاعات على نقيض مما كان يعتقد سابقاً، وهذه الإشعاعات اسمها إشعاعات (هوكنغ). بلإضافة إلى ذلك،صاغ هوكنغ مع الفيزيائي هرتل نظريته، أن الكون لايملك حدوداً في المكان والزمان، بل هو كسطح الأرض. فسطح الأرض لاحدود له أي لايبدأ من نقطة ولا ينتهي في أخرى. هكذا الكون لا بداية له ولا نهاية. الكون كالكرة بلا نقطة بداية ولا نقطة نهاية ما يتضمن عدم الحاجة إلى ماهو خارجه ليبدأ خلقه.
Stephen Hawking : The Universe in a Nutshell.2001. Bantam Book. & Stephen Hawking: A Briefer History of Time. 2005. Bantam Books.

طبيعة العلم ونظرياته


يتضح موقف روجر بنروز حول طبيعة العلم على ضوء الجدل الذي دار بينه وبين ستيفن هوكنغ أكد هذا الجدل، الخلاف الجوهري بينهما، فبينما يعتقد بنروز بصدق المذهب الواقعي، يتفق هوكنغ مع الموقف (ليس بالمعنى السلبي). بالنسبة إلى الواقعية. العالم موجود بشكل مستقل عنا، ولابد أن تكون النظريات العلمية مطابقة للواقع كما هو. أما المذهب اللاواقعي فيقول إن النظريات العلمية ليست صادقة ولا كاذبة، بل هي فقط مقبولة لكونها مجرد أدوات للتنبؤ بالظواهر الطبيعية. على هذا الأساس يعبر بنروز عن قلقة حول نظرية ميكانيكا الكم. فهو يطالب النظرية العلمية أن تكون صادقة، بمعنى أن تطابق الواقع لكن بالنسبة إلى نظرية ميكانيكا الكم، الواقع غير المحدد، فقطة شرودنغر حية وميتة في الوقت ذاته، وبذلك يستحيل عليها أن تطابق الواقع، وإلا أمسى الواقع متناقضاً. أما هوكنغ فلا تقتله نظرية ميكانيكا الكم لأن النظريات العلمية بالنسبة له أدوات للتنبؤ بما بما يحدث وتنجح ميكانيكا الكم في هذا كل النجاح. هكذا يصور بنروز العلم على أنه الصادق المطابق لواقع مستقل عنا، وعن إدراكاتنا، بينما يكتفي هوكنغ بقبول العلم كأداة للتفسير والتنبوء من دون أن يطالب العلم بمطابقة الواقع المستقل
عنا. لذا لا يرضى بنروز عن ميكانيكا الكم بينما يرضى هوكنغ عنها.
Stephen Hawking and Roger Penrose: The Nature of Space and Time. 1996 . Princeton University Press.

من حجج بنروز على صدق موقفه الواقعي، وعدم رضاه عن ميكانيكا الكم الحجة التالية: يقول إنه لابد من تفسير لماذا ندرك الواقع كما ندركه، أي لابد من تفسير لماذا ندرك القطة على أنها إما حية وإما ميتة. لكن ميكانيكا الكم تصر على أنها حية وميتة في الوقت نفسه. من هنا يستنتج بنروز ضعف ميكانيكا الكم. ويشبه بنروز خلافه مع هوكنغ بالخلاف الذي اشتهر بين أينشتاين وبوهر. فموقف بنروز يتفق مع أينشتاين الذي رفض ميكانيكا الكم، بسبب قولها، إن الكون غير حتمي، بينما موقف هوكنغ يتفق مع موقف بوهر القائل،إن العلم مجرد أداة مفيدة في التفسير والتنبؤ، ما دعى بوهر إلى قبول ميكانيكا الكم. لكن بنروز يؤكد كما يؤكد أينشتاين، على أنه يوجد عالم حقيقي بل واقع حتمي لابد أن
تعبر عنه نظرياتنا العلمية وهنا تفشل ميكانيكا الكم (المرجع السابق).

جدل العقل والكومبيوتر


بنروز واقعي يؤمن بوجود عالم فريد من الأفكار يصف الواقع الفيزيائي. لكن هوكنغ يعتقد أن النظريات الفيزيائية مجرد نماذج رياضية وبناءات عقلية نحن من يبنيها، وبذلك سؤالنا عما إذا كانت النظريات مطابقة للواقع هو سؤال بلامعنى، ويحق لنا فقط أن نسأل، ما إذا كانت النظريات تفسر الظواهر الطبيعية وتتنبأ بها. ينتقل هذا الخلاف بين بنروز وهوكنغ إلى ميدان العقل وعلاقته بالكومبيوتر. فبما أن النظرية العلمية بالنسبة إلى بنروز لابد أن تطابق الواقع بدلاً من أن تكون مجرد نموذج ناجح في تفسيره، إذاً نجاح الكمبيوتر في التشبه بالعديد من صفات العقل، وهذا لا يدلنا بحق على أن العقل فعلاً (كومبيوتراً). من هنا، من الطبيعي أن يرفض بنروز نظرية أن العقل مجرد كومبيوتر. لكن بما أن النظرية العلمية مجرد نموذج رياضي ناجح في تفسير الظواهر والتنبؤ بها وليس من المطلوب من النظرية العلمية أن تطابق الواقع بالنسبة إلى هوكنغ، إذن من الطبيعي أن يقبل هوكنغ نظرية، أن العقل كومبيوتر متطور على ضوء إمكانية نجاح الكومبيوتر المتطور في التشبه بوظائف العقل جميعها. هكذا هو خلافهما الأساسي حول طبيعة العلم ونظرياته ينتقل إلى خلاف حول ما إذا كان العقل كومبيوتراً متطوراً أم لا. لايقدم روجر بنروز برهاناً أساسياً على صدق موقفه القائل، بأن العقل ليس كومبيوتراً إنما هو التالي: بالنسبة إلى نظرية غودل في الريا
ضيات توجد في كل نظام رياضي عبارات صادقة من غير الممكن البرهنة على صدقها، وبذلك لاتخضع لعمليات حسابية . من هنا يستنتج أن العقل غير حسابي؛ فلو أنه حسابي ماكان ليكوٌِِن ويعتقد بأي نظام رياضي متشكل من بعض العبارات التي يستحيل حسابها أي البرهنة عليها حسابياً. وبما ان العقل ليس حسابياً، بينما الكومبيوتر حسابي (أي يعتمد على مبادئ معينة لا يحيد عنها وفقط على ضوئها يتصرف) إذاً يستنتج بنروز أن العقل ليس كومبيوتراً.
Roger Penrose: The Large , The Small and The Human Mind. 1997. Cambiridge University Press. & Roger Penrose: The Emperors New Mind. 1989. oxford University Press.

من جهة أخرى يرفض ستيفن هوكنغ حجة بنروز قائلاً أن نظرية غودل في الرياضيات غير مرتبطة بقضية ما إذا كان العقل كمبيوتراً أم لا. وبرهان هوكنغ على ذلك، أن العقل نشأ نتيجة الانتقاء الطبيعي الدارويني، فوظيفته أن يجعلنا نتجنب الضرر وأن نتولد. أي وظيفة القيام بالحسابات الرياضية. من هنا يستنتج هوكنغ أن نظرية غودل غير متعلقة بمسألة ماهية العقل، وما إذا كان كومبيوتراً أم لا، وبذلك يؤكد هوكنغ على فشل البرهان الأساسي لبنروز، فيضيف أنه لاتوجد حجة لرفض فكرة أن العقل من الممكن أن يكون مجرد كومبيوتر متطور. لكن بنروز لايسكت فيرد على نقد هوكنغ على النحو التالي: بالفعل الانتقاء الطبيعي الدارويني يشير بقوة إلى أن العقل لم يتم اختياره من أجل القيام بالحسابات الرياضية، بل تم انتقاء العقل من أجل وظيفة الفهم. والفهم غير حسابي، ولذا يمكننا فهم اشياء غير حسابية، كأن نفهم النظام الرياضي من دون أن نتمكن من حساب صدق كل عباراته. هكذا الفهم ليس حسابياً على نقيض من الكومبيوتر (المرجعان السابقان).
يستمر الجدل والخلاف بين بنروز وهوكنغ وينقسم العلماء بين موقفيهما، بما أن العلم عملية تصحيح مستمرة فلا يقينيات في العلم. لكن لماذا يختلف العلماء ويتجادلون حول معظم القضايا العلمية؟ تجيب السوبر حداثة قائلة: إنه من غير المحدد ما هو العلم، وما طبيعته كما من غير المحدد أية نظرية علمية هي النظرية الصادقة، لذا من الطبيعي أن يكون العلم عملية تصحيح مستمرة، وأن يختلف العلماء حول معظم القضايا العلمية. هكذا تنجح السوبر حداثة في تفسير طبيعة ما يحدث في العلم من جدل واختلاف، فتكتسب بذلك مقبوليتها
.








الاثنين، 3 أغسطس 2009

السوبر تخلف


السوبر تخلف

حسن عجمي

نحن سوبر متخلفون لاننا نرفض العلم والمنطق ونستخدم العلوم من أجل التجهيل. ثمة فرق شاسع بين التخلف والسوبر تخلف. الشعب المتخلف هو الشعب الذي لا ينتج ما هو مفيد للعالم والبشرية، بينما الشعب السوبر متخلف فهو الذي يطور التخلف من خلال الاستعانة بالعلم من أجل نشر الجهل. وهذا ما نقوم به بالضبط.
تختلف الأمثلة هنا وتتنوع. فمثلاً ،نعتمد على أقوال العلماء والمفكرين الغربيين من أجل تبرير وجود أنظمتنا الدكتاتورية، وإقتتالنا الداخلي المستمر. مثال آخر استخدام العلم من أجل التجهيل هو التالي: معظم مدارسنا وجامعاتنا ووسائل إعلامنا وظيفتها الأساسية كامنة في نشر الكراهية والعداوة بين القبائل الطائفية والمذهبية المختلفة.
فلكل مذهب او طائفة مدارسها ومعاهدها وجامعاتها و وسائل إعلامها الخاصة التي تهدف إلى تعزيز عصبيتها وتمتين عداوتها تجاه القبائل المذهبية أو الطائفية الأخرى. هكذا يتجلى سوبر تخلفنا في أننا لا نشكل مجتمعاً؛ بل نحن قبائل متصارعة على الدوام. فالصفة الأساسية للقبائل هي أنها في صراع دائم. وبما أننا مجرد قبائل، اذاً من الطبيعي أن تحيا الحروب الأهلية بيننا. من هنا تتمكن أطروحة السوبر تخلف من تفسير لماذا تستمر حروبنا الأهلية ولا تزول.
فالشيعة قبيلة، والسنة قبيلة، والدروز قبيلة، والموارنة قبيلة أخرى إلخ, والمسيحيون الشرقيون قبيلة في مواجهة قبيلة المسلمين الشرقيين.
هكذا ليس من المستغرب أن نحيا،بل أن نموت باستمرار في صراعاتنا الداخلية الدائمة،كما ليس من المستغرب وجود قبيلة اليهود بيننا الممثلة ب (إسرائيل). بالفعل، بدلاً من أن تخرج مدارسنا وجامعاتنا مثقفين وعلماء تخرج إرهابيين صغاراً ينتمون إلى هذه القبيلة أو تلك.
يتجسد السوبر تخلف ايضاً في استخدام التكنولوجيا من أجل التجهيل، مثل ذلك أننا نستعمل الأنترنيت والراديو والتلفزيون وفضائياته كي ننشر كراهيتنا تجاه الآخر منا والآخر من الغرب.
فتحتشد فتاوى التكفير والتخوين على شاشات التلفزيون والأنترنيت في أجواء سمائنا الملعونة. وسبب ذلك أننا نرفض العلم. فمع زيادة التكنولوجيا ونقصان العلم يزداد التخلف. وهذا ما حدث لنا.
فالتكنولوجيا متاحة لنا،لكننا نرفض العلم ولا نشارك في إنتاجه، وبذلك من المتوقع يزداد التخلف وأن نفتتح عصر السوبر تخلف حيث التخلف هو القيمة الأعلى. فالكثر تخلفاً أكثر نجاحاً في هذا الزمن. كما أن السوبر تخلف يتجسد في أننا محددون سلفاً في أفكارنا ومشاعرنا وتصرفاتنا. فافعالنا وأفكارنا ومشاعرنا نسخ عما كان يفعل أجدادنا ويفكرون ويشعرون. هكذا نعيش في قبور أجدادنا.
بالإضافة إلى ذلك، من الأمثلة الواضحة على سوبر تخلفنا هو المثل التالي : معظم خطاباتنا وكتبنا ونصوصنا تحتوى على رفض صريح للمنطق ولا تعتمد على أي أسس علمية. فلا نجد كتاباً علمياً أصلاً في مكتباتنا، كما أننا نفتقر إلى طبقة العلماء. وبذلك ليس من المستغرب أن نرفض المنطق وهو أداة أساسية من أدوات العلم. فكم تنتشر التناقضات والمصادرة على المطلوب والدور (وتعريف الشيء بالشيء نفسه)، في النص العربي المعاصر نفسه. هكذا نحول الكتابة إلى أداة تجهيل وتخلف فنقدم الجهل على أنه علم ومعرفة.
أما الأدب من شعر ونثر فأمسى بين أيدينا لعباً على الكلمات ما جعله يفتقد إلى أي هدف ومعنى. فمعظم عباراتنا في النثر والشعر أصبحت بلا فحوى كعبارة (العدد سبعة متزوج). فاذا سألت أي مدعي ثقافة عما يجعل العبارة ذات معنى وما يجعلها بلا معنى فستجد الصمت سيد الكلام. فنحن لانميز بين العبارة المالكة لمعنى و العبارة الخالية من معنى، وبذلك من الطبيعي أننا سوبر متخلفين بامتياز.
العلم أساس المجتمع والديمقراطية، لكن لماذا نرفض العلم ما يتضمن من منطق؟ جواب ذلك هو أننا نؤمن باليقينيات. فالعلم عملية تصحيح مستمرة، وبذلك لا يقينيات في العلم. فالنظريات العلمية تستبدل بأخرى عبر تاريخ العلوم. وعلى هذا الأساس، بما أن لا يقينيات في العلم، وبما أن معتقداتنا يقينيات بالنسبة الينا، إذن من المتوقع أن نرفض العلم وما يحتوي من منطق وموضوعية. من هنا، نحن سوبر متخلفون، لأن معتقداتنا يقينيات بالنسبة لنا. فاليقين قاتل العلم بينما اللايقين يدفعنا إلى البحث الدائم عن الحقائق، وهذا جوهر العلم.
من جهة أخرى، العلم أساس المجتمع والديمقراطية. وبما أننا نرفض العلم، إذن من غير المستغرب أننا خسرنا مجتمعاتنا ولم تظهر الديمقراطية لدينا. فكل الأنظمة العربية دكتاتورية ومنها النظام اللبناني الدكتاتوري في طائفيته. الآن، بما أن العلم عملية تصحيح مستمرة، وبذلك لا يقينيات في العلم، إذن أذا قبلنا العلم وشاركنا في إنتاجه حينها ستزول يقينياتنا وتغدو معتقداتنا مجرد أفكار ممكنة ما يتضمن عدم تعصبنا لما نعتقد وبذلك نقبل الآخر، وأن اختلف عنا فيما يعتقد ويتصرف. وقبول الاخر أساس وجود المجتمع وبناء الديمقراطية؛ فلا ديموقراطية ولا مجتمع دون قبول الفرد الآخر والتفاعل معه من منطلق قبوله. ومن هنا العلم أساس المجتمع والديمقراطية. فكما أن العلم لا يحدد ما هو يقيني، كذلك النظام الديمقراطي ومجتمعه المدني لا يحددان ما هو الفكر الصادق وما هو التصرف السليم، دون فكر أو تصرف آخر. هكذا العلم يبني المجتمع الديمقراطي ، ومن دون علوم ومشاركة في إنتاجها يزول المجتمع وتختفي الديمقراطية.
هذا يفسر ايضاً لماذا لماذا تسيطر الدكتاتورية على (مجتمعاتنا الافتراضية). فبما أننا نرفض العلم، وبذلك نتمسك بيقينياتنا ما يتضمن رفضنا للآخر في (مجتمعاتنا)، وأن اختلف فقط قليلاً عنا، إذن من المتوقع أن يموت المجتمع لدينا و تسيطر مجموعة يقينيات دون أخرى، وهذه المجموعة من اليقينيات ليست سوى الدكتاتورية التي تحكمنا. النظام الدكتاتوري مجموع يقينيات قامعة بالضرورة لليقينيات الأخرى. هكذا عدم مشاركتنا في صياغة العلوم أدى إلى انتصار يقينياتنا الكاذبة فزال المجتمع وسيطرت الدكتاتورية، ما جعلنا نفتتح عصراً جديداً هو عصر السوبر تخلف.


السوبر إرهاب

لسنا سوبر متخلفين فقط ، بل نحن أيضاً سوبر إرهابيين. والفرق شاسع بين الإرهاب والسوبر إرهاب. فبينما الإرهاب قتا أجساد الابرياء، السوبر إرهاب قتل إنسانية الإنسان، وهذا ما نجيد فعله. لقد أمسى الفرد منا عبداً لهذا الطاغية الكبير أو الصغير فتحول (الإنسان) لدينا إلى خاصة هذا السلطان أو تلك القبيلة فخسرنا إنسانيتنا وقتلنا إنسانية بعضنا البعض.
والسوبر إرهاب أساس السوبر تخلف. فبما أن السوبر إرهاب هو قتل إنسانية الإنسان، وبما أن السوبر تخلف هو استخدام العلم من أجل التجهيل، وفقط الفاقد لإنسانيته يستخدم العلم من أجل التجهيل، إذن السوبر إرهاب أصل السوبر تخلف ومصدره. هكذا نحن سوبر متخلفين وسوبر إرهابيين في الوقت ذاته. ولم يسبقنا شعب من الشعوب إلى تحقيق هذا الإنجاز!