السبت، 30 مايو 2009

الأكوان الممكنة وأهداف الطبيعة



مارتن ريز و بول ديفيز

الأكوان الممكنة وأهداف الطبيعة



حسن عجمي


مارتن ريز فيزيائي وعالم كونيات درس الاشعاعات الكونية وكيفية تشكل المجرات. كتب أكثر من خمسمائة مقال علمية. أما الفيزيائي بول ديفيز فاهتم بدراسة علم الكونيات وميكانيكا الكم. كما بحث في البيولوجيا الفضائية فاشتهر بموقفه القائل بإمكانية أن يكون مصدر الحياة على الأرض هو المريخ،عبر تساقط الصخور والنيازك. يتفق كل من ريز وديفز عل طرح سؤال محورى: لماذا يوجد عالمنا بالذات، بحيث يسمح بوجود الحياة؟ لكنهما يختلفان بالإجابة على هذا السؤال. نراقب في هذا المقال نظريتيهما ومدى نجاحها.
يسأل مارتن ريز سؤلاً علمياً وفلسفياً أساسياً ألا وهو: لماذا يوجد عالمنا الواقعي بدلاً من أن يوجد عالم آخر؟فمن الممكن أن يوجد عالم مختلف في حقائقه وقوانينه الطبيعية عن عالمنا،وبذلك يحق لنا،أن نسأل لماذا يوجد عالمنا بالذات بدلا من عالم آخر،وهذا السؤال مرتبط بالضرورة بسؤال آخر وهو: لماذا توجد الظروف والحقائق والقوانين الطبيعية في عالمنا الواقعي التي تسمح بنشوء الحياة؟ فمن الممكن أن يكون عالمنا خالياً من أية ظروف وحقائق وقوانين سامحة لنمو الحياة. لكننا نجد أن الحياة قد أزدهرت في عالمنا. من هنا،علينا ان نسأل علمياً وفلسفياً: لماذا وجد عالمنا بحقائقه وظروفه وقوانينه بالذات المتآمرة على نشوء الحياة بدلاً من أن يوجد عالم ممكن آخر مختلف ولايسمح ابداً بنمو الأحياء؟ هذان السؤلان توأمان فإذا أجبنا عن أحدهما نجيب عن الآخر . فالسبب الذي يؤدي إلى نشوء عالمنا بقوانينه وحقائقه هو ذاته الذي يؤدي الى ظهور الحياة. الان،يعتمد الفيزيائي ريز في إجابته على نظرية الأكوان الممكنة التي تعتبر انه توجد أكوان ممكنة عديدة ومختلفة.


الأكوان الممكنة

ثمة ثلاث نظريات علمية أساسية يستنتج منها،أنه توجد اكوان ممكنة عدة ومتنوعة. النظرية الاولى هي ميكانيكا الكم. بالنسبة اليها،من غير المحدد سرعة الجسم ومكانه في آن،ومن غير المحدد ما إذا كان الجسم جسيماظص أم موجة. من هنا تقول ميكانيكا الكم إنه من غير المحدد ما إذا كانت قطة شرودنغر حية أم ميتة. لكن لابد لاي قطة أن تكون إما حية إما ميتة. وهذا ما يعارض ميكانيكا الكم كي يحلو المشكلة. من هذه التفاسير التفسير التالي: ثممة عالمان ممكنان مختلفان بدلاً من عالم واحد. في عالم ممكن قطة شرودنغر حية، وفي عالم ممكن آخر قطة شرودنغر نفسها ميتة. هطذا يتم أختزال القول،إنه من غير المحدد ما إذا كانت قطة شردنغر حيةأم ميتة إلى القول إنه يوجد عالمان حيث القطة حية وعالم آخر حيث القطة ذاتها ميتة. وبذلك يتجنب هذا التفسير لميكانيكا الكم الآشكال السابق. من هنا ترشدنا ميكانيكا الكم إلى قبول أنه توجد أكوان ممكنة عديدة ومختلفة. النظرية العلمية الثانية تعتبر أن الكون قد نشأ من عدم ،جراء التقلبات الكمية. ولكن بما أن الكون نشأ من نقطة العدم، إذاً من المتوقع نشوء أكوان ممكنة مختلفة من نقاط متنوعة في العدم، هكذا تدافع هذه النظرية عن فكرة وجود الكوان الممكنة. أما النظرية العلمية الثانية فهي نظرية الأوتار التي تقول، إن الكون يتكون من أوتار وأنغامها. فكل الجسيمات والطاقات مكونة من أوتار وتتشكل من جراء اختلاف ذبذبات الآوتار. وبذلك لابد أن كل حل منها يصف كوناً ممكناً مختلفاً من الأكوان التي تصفها الحلول الأخرى. هكذا تؤدى نظرية الوتار العلمية إلى نتيجة انه توجد فعلاً أكوان ممكنة عديدة ومتنوعة.

تفسير عالمنا


يستعين مارتن ريز بهذه النظرية ليؤكد على وجود الأكوان الممكنة، ومن خلال وجود هذه الكوان يفسر لماذا يوجد عالمنا بالذات. يقول ريز: بما أنه توجد أكوان ممكنة مختلفة وعديدة إن لم تكن لامتناهية في العدد،إذاً من غير المستغرب وجود عالم كعالمنا يحتوي على حقائقه وقوانينه الطبيعية بالذات،بدلاً من حقائق وقوانين أخرى. هكذا يفسر ريز لماذا يوجد عالمنا بحقائقه وقوانينه. ويقدم مارتن ريز مثلاً على ذلك وهو أنه إذا دخلنا متجراً لبيع الثياب حيث توجد ألبسة متنوعة بمقاسات عدة ومختلفة، إذاً حينها سيكون من الطبيعي أن نجد لباساً يناسبنا، من المنطلق ذاته، بما أنه توجد أكوان مختلفة كثيرة وعديدة،إذاً من المتوقع أن يوجد عالم كعالمنا تسمح ظروفه وحقائقه وقوانينه الطبيعية بظهور الحياة وازدهارها. هكذا يتمكن ريز من تفسير لماذا توجد الحياة ولماذا تسمح ظروف عالمنا وقوانينه بنشوئها تماناً كما يتمكن من تفسير لماذا يوجد عالمنا بالذات.
(
Martin Rees:Our Cosmic Habitat 2001. Princeton University Prees)



أهداف الطبيعة


من جهة أخرى، يعتبر الفيزيائي بول ديفيز ان الكون مكون بدقة بالغة؛ فإذا أختفت أية صفة للكون كصفات ذراته او توزيع مجراته ولو قليلاص عما هي عليه ما كانت الحياة لتوجد. مثل ذلك: الكربون والماء السائل الموجودان بكثرة في عالمنا ضروريان لوجود الحياة، والقوانين الطبيعية كانها مكونة خصيصاً لكي توجد الحياة. عالمنا في كل معالمه صديق مخلص للحياة. فمثلاً ،ستحيل وجود الحياة في عالم بأبعاد غير أبعاده المكانية الثلاثة الحالية. وكما نعرف فإن الكون قد نشأ من جراء النفجار العظيم. لكن لو كان هذا الأنفجار اكبر مما كان لتطايرت الغازات ولم تنشأ المجرات. ولو كان الأنفجار العظيم لم يكن كبيراص كما هو لانهار على نفسه قبل نشوء الحياة. فالكون يتمدد بدرجة كافية لتنمو المجرات والنجوم والكواكب، ولكن ليس ببطء شديد كي لاينهار. هكذا الانفجار العظيم و ما أدى إليه من تمدد للكون هما عنصران أساسيان لخلق الحياة وكأنهما إتخذا صفاتهما فقط من أجل أن تظهر الحياة. أما القوى الطبيعية كالجاذبية والقوى النووية فهي مناسبة جداً لوجود الحياة؛ فلو أنهما أقوى بقليل أو أضعف بقليل ما كانت الحياة لتتمكن من الوجود.
(Paul Davies: Cosmic Jackpot 2009. Houghton Mifflin Company.)
يبني ديفز تفسيره الخاص تلك الحقائق. يقول إن الحياة والعقل أساسيان في الكون؛ فلا بد من النظر إلى الحياة والعقل على أنهما يشتركان في خلق العالم، كما يشير إلى ذلك ميكانيكا الكم. فعلى ضوء ميكانيكا الكم يستنتج ديفز أن العقل والحياة أساسيان في وجود الكون، بدلاً من ان يكونا نتيجتي الصدفة. من هنا ، يقول إنه يوجد مبدأ طبيعي شبيه بالقوانين الطبيعية يحتم وجود الحياة والعقل ولذا العالم ينتج وجودهما ويخلقهما بالفعل،هكذا يفسر ديفز لماذا الكون صديق للحياة،أي لماذا توجد الحياة في عالمنا. فللكون هدف طبيعي هو جزء من مبادئه الطبيعية،وهذا الهدف هو هدف بناء الحياة. أما بالنسبة إلى ميكانيكا الكم فمن غير المحدد ما إذا كان الجسيم جسيماً أم موجة. تتعدد هنا تفاسير مضمون ميكانيكا الكم منها التفسير القائل إن الوعي يحدد طبيعة الجسيم، فإذا نظر الى الجسيم أبصره حينها يدركه، إما على أنه جسيم وإما علة أنه موجة. فالوعي يحدد ما غذا كان الجسيم جسيماً أم موجة. لكن الكون يخلق الحياة والعقل،ولقد وجدنا مع ديفز أن الحياة والعقل يخلقان الكون أيضاً. من هنا الكون يخلق ويفسر ذاته. ويعترف ديفز أنه اقرب إلى قبول هذا الموقف. على أساس كل هذا، يوجد عالمنابحقائقه وقوانينه الطبيعية بالذات لأن له هدفاً ألا وهو خلق الحياة. هكذا يفسر ديفز لماذا يوجد عالمنا بالذات.

مشاكل مدمرة


لكن كلا من نظرية ريز ونظرية ديفز تواجه مشكلة مدمرة. تفسر نظرية ريز وجود عالمنا من خلال وجود الأكوان الممكنة العديدة. يفشل هذا التفسير لأن تسليمنا العلمي بوجود الأكوان الممكنة لايتضمن بالضرورة وجود عالم كعالمنا بحقائقه وقوانينه بالذات. لنسلم بأنه توجد أكوان ممكنة مختلفة ولامتناهية في العدد،رغم ذلك من الممكن بالنسبة إلى علم الرياضيات، سحب الأكوان الشبيهة بعالمنا ومنها عالمنا الواقعي نفسه من سلسلة الأكوان الممكنة اللامتناهية، وتبقى هذه السلسلة مكونة من أكوان لامتناهية؛ هذا ما يؤكده علم الامتناهيات. على هذا الأساس السلسلة اللامتناهية من الأكوان الممكنة لاتتظمن بالضرورة وجود عالم كعالمنا. من هنا وجود الأكوان الممكنة لايساعدنا على تفسير لماذا يوجد عالمنا بالذات.كما تعاني نظرية ديفز من مشكلة أساسية،هي أنها غير علمية. فمهما كانت بنية الحياة تفسرها نظرية ديفز على انها كذلك بسبب أن هدف المبدأ الطبيعي الخالق للحياة، هو أن يخلقها كذلك. بالنسبة إلى هذه النظرية، بنية الحياة هي هذه البنية دون بنية أخرى، بسبب المبدأ الطبيعي. وبذلك مهما كانت بنية الحياة يتم تفسيرها من خلال هدف المبدأ الطبيعي ما يعني أنه يستحيل أختيار نظرية ديفز، لأنها لاتحدد ما يجب أن تكون عليه بنية الحياة. لكن النظرية العلمية هي التي من الممكن أختيارها. من هنا نظرية ديفز غير علمية فالتفسير من خلال الأهداف الطبيعية (أو الروحية) تفسير غير علمي، لأنه لا يتنبأ بنبؤات محددة فيستحيل أختباره. ففي حال كانت الحياة غير موجودة او في حال كانت موجودة لفسرنا ذلك من خلال هدف المبدأ الطبيعي، وبذلك لايتنبأ هذا المبدأ الطبيعي بعدم وجود الحياة أو بوجودها وبذلك يخسر علميته.