الجمعة، 16 يناير 2009

نظم "التوقيف" إلى نفع "الإفادة" في "السوبر مستقبليّة" لحسن عجمي




"التوقيف" مصطلح تقليدي و"الإفادة" مصطلح حديث، الأوّل قرين الدّراسات اللغوية التوقيفيّة، والثاني قرين الدّراسات الصّوتية، وهما في كل الحالات ينتميان إلى ميدان "براغماتية اللغة" الذي يعرّف به حسن عجمي قائلاً "ميدان براغماتية اللغة هو دراسة المبادىء التي على أساسها نتكلم ونتحاور". و"التوقيف اللغوي" إن كان يستجيب لمبدأ "المصادرة"،.. مصادرة نظم الكلام، استجابة لما يقتضيه مبدأ "الحقيقة" أو "الصدق" فإنّ "الإفادة اللغويّة" أو "الوجاهة اللغويّة" La pertinence Linguistique تقتضي اتباع بعض الفرضيات المفيدة عمليّاً، بدلاً من الاستجابة القسرية للمصادرات التوقيفيّة المؤسّسة على مبدأ الفرضيات الصّادقة. وانطلاقاً من هذه التفرقة المعرفيّة النوعيّة التي يجسّدها حسن عجمي بقوله "هنا لا تراعي مبدأ قول ما هو حقيقيّ أو صادق بل تراعي بدلاً من ذلك قول ما هو مفيد» (ص 203)**.
هذه التخريجة الطريفة، أو النتيجة الافتراضيّة، تجعل من الممكن الحديث عن اختلاف المبادىء المتبعة في الحديث من طرف إلى آخر، وبذلك تكون تلك المبادىء غير محدّدة، فيتسنى للباحث الافتراضي التحرّر أو الانفلات من إجحافات "المذهب التوقيفي" وإكراهاته المادّية والنفسيّة، ويتسنى للنظريّة "السّوبر مستقبلية" تبعاً لذلك أن تقول: "مبادىء الحديث أو الخطاب تتحدّد في المستقبل، وبذلك هي غير محدّدة في الحاضر والماضي. من هنا نجدها تختلف من ظرف إلى آخر، ولا نتمكن من تحديدها في مجموعة معيّنة محدّدة. هكذا تنجح هذه النظريّة "السّوبر مستقبليّة" في تفسير اختلاف المبادىء وتبدّلها" (ص 204).
"السوبر مستقبلية" علم راقٍ بكيفيّات القول تخترق سقف التوقيف ليحلّ الكيف محلّ الكمّ، أو المحتوى الثابت الصّالح لكل زمان. والكيف منهج في التعامل مع اللغة مختلف، يجعل دارس اللغة أو مستعملها مورطاً في تحديد مفاهيمها، فكيفيّة الاستعمال والتصرّف تحدّد مبادىء الخطاب والتخاطب. وكيفيّة الاستعمال أو التصرف تجيز أيضاً لمستعمل اللغة أن يركن عمليّاً أثناء القول في حياته اليوميّة إلى المفيد لا غير، فيتحرّر من إكراهات "التوقيف". وهكذا تصبح مبادىء استعمال اللغة لاحقة للاستعمال، لا سابقة له أو مقرّرة مصادرة؛ "فمن المستحيل أن توجد مبادىء لاستعمال اللغة قبل أن نستعمل اللغة،... لذلك استعمالنا للغة يحدّد مبادىء استعمالها" (ص 205).
فمسألة الاستعمال إن كانت تثير جدلاً بين النحويين، وتصنفهم صنفين (أحدهما توقيفي والآخر إفادي، فيكون لكل صنف حججه، فإن حسن عجمي يحتجّ على أسبقية الاستعمال بالإحالة إلى علوم افتراضية وحالات ممكنة. إذ يقول: "فمن الممكن وجود قوم آخرين أو مريّخيين لديهم استعمال للغة مختلف تماماً عنا. فلو وجدت مبادىء لاستعمال اللغة محدّدة سلفاً لكان من المستحيل وجود هؤلاء القوم أو هؤلاء
المريخيين" (ص 205). ومن دون أن يواصل حسن عجمي الحجاج في مسألة الاستعمال إلى ما يقتضيه المنهج العلميّ المتعارف من تفصيل الأمثلة وتدقيق الإحالات، بما يلزم المسألة اللغوية، نراه يستطرد إلى طرح مسألة لغويّة أخرى تتعلق بكيفيّة تشكل المعاني في الخطاب، كلمة، مفردة، وجملة، أو نصّاً، فيقول متخلصاً من الحديث عن مسألة الاستعمال. "بالإضافة إلى ذلك توجد معضلة فكريّة حول كيفيّة تشكل المعاني. أولاً لدينا حجّة مقبولة على أنّ الكلمة المفردة تشكل معنى الجملة التي هي جزء منها، وبذلك تساهم في تشكيل معنى الخطاب وسياقه" (ص 205).
كما أنّ لحسن عجمي ولغيره من علماء الأسلوب*** حجّة أخرى مقبولة تدل على أنّ السيّاق يحدّد بالمقابل معنى الكلمة المفردة. ومن هنا تكون علاقة المفردة بالنصّ. أو السيّاق. تشبه علاقة البيضة بفرخها، وهي نتيجة غالباً ما تُعجِز الباحثين، وتنتهي بهم لترك الأمر إلى المجهول. "فالنتيجة الكلمة المفردة تحدّد معنى السيّاق.. والسيّاق يحدّد معنى الكلمة المفردة. هذا دور،.. فمعضلة واستحالة. كأننا نقول (أ) يسبب (ب) و(ب) يسبب (أ) وبذلك (أ) يسبب أ ومن المستحيل أن يسبّب الشيء ذاته فكيف الخروج من هذه المشكلة" (ص 206).
سؤال حسن عجمي هامّ لأنه يمثل نقلة نوعيّة في التشريع لعلم مستقبليّ طارىء. هو علم خرق «البديهي».. عقبة الاستمرار في السّؤال وعثرة الكفّ أو التخلّي عن متاهة نشأة الأمر من ذاته. فكأني بحسن عجمي لا يقلل من أهميّة السّفسطائي أو الافتراضي، لذلك لا يستبعد الحلّ للخروج من مأزق البديهي. والحلّ في "السوبر مستقبلية" القائمة على مبدأ تشكّل المعنى بالأمر والأمر نفسه، أي بالكلمة المفردة التي هي النصّ والنصّ الذي هو الكلمة المفردة.. في وظيفة التحديد المتبادل غير المستحيل في المستقبل. "يكمن الحلّ في القول بأنّ المعنى يتشكل في المستقبل، وبذلك الكلمة المفردة تحدّد معنى السّياق، والسياق يحدّد معنى الكلمة. المفردة في المستقبل" (ص 206).
فـ "علم خرق البديهي" أو "السوبر مستقبليّة" مقاربة تفكّ قيد "التوقيف" أو "المصادرة المعرفيّة المعجزة" بمرونة المقاربة التي تسعى إلى "الاقتراب"، وفي ذلك انفتاح لا محدود على ذهنيّة "اللامستحيل"،.. فيصير مبدأ "المفروغ منه مبدأ مثيراً للأسئلة المعقدة والتحاليل المترقية منهجيّاً في تأثر وتأثير بما يطرأ من معارف متسارعة متناغمة ومتناقضة، فتصير الوثوقيّة أو الصرّامة في تحديد المعنى بمقتضى
"التوقيف" هشّة أو متحوّلة بـ "الإفادي" إلى اقتراب أكثر نحو الكشف والتوقع. "وبما أنّ المعنى يتشكل في المستقبل الغائب عنا، إذاً من المتوقع أن نجد صعوبة في إدراك المعاني، ومن المتوقع وجود بعض الخطابات التي من غير المحدّد ما هي معانيها، فكلّ ما نتمكن من القيام به هو الاقتراب أكثر نحو كشف معاني الجمل والمفاهيم" (ص 207).
حسن عجمي يبدو مفيداً في هذا الفصل بالذات من كتابي دونالد دفيدسون Donald Davidson ويعقوب مي Jacob Mey في الحقيقة والمعنى والتأويل والبراغميات. كما هو مفيد من مراجع أخرى كلها بالإنكليزية تهمّ الاعتقاد والمجاز والمعنى،.. منسوبة إلى تشومسكي وروسل وكوين وغيرهم. حيث لا وجود لمصدر أو مرجع عربي واحد، ممّا يبعث على الفهم المفترض أنّ حسن عجمي يقصد بهذا الإشارة المضمرة إلى أنّ اهتمامات الدّرس اللغوي العربيّ المعاصر تختلف، أو لا تولي، اهتماماً لهذه المسألة لأسباب يطول شرحها. مما يجعل كتاب "السوبر مستقبلية" معرفيّاً يحتاج إلى ذهنية وأدوات قراءة مخصوصة، بل متطوّرة جداً. وإن حاول حسن عجمي تبسيطها عن طريق اللغة المتداولة والأمثلة التقريبيّة والحجاج التعليميّ القائم على الاستطراد والتكرار المنفتح على التشويق بطرافة الاستقراء والاستنباط في التخريجات،.. والاستنتاجات بديهيّة أحياناً مذهلة أحياناً أخرى.

محمد خريّف
ناقد من تونس