الخميس، 29 يناير 2009

عن التفسير العلمي لنشوء الحياة؟

البيولوجي مايكل بيهي والفيزيائي بول ديفيز:

عن التفسير العلمي لنشوء الحياة؟



حسن عجمي

ما زال الجدل قائماً حول ما هو التفسير العلمي الحقيقي لنشوء الحياة. وقد قدّم كل من عالِم البيولوجيا مايكل بيهي والفيزيائي بول ديفيز نظريته الخاصة في هذا الشأن.يعتبر مايكل بيهي أن النظرية الداروينية لا تقدّم تفسيراً دقيقاً للحياة. فالتحولات البيولوجية العشوائية والانتقاء الطبيعي والوراثة لا تكفي لنشوء الكائنات الحية ونجاحها في البقاء والاستمرار، بل لا بد من وجود طريق ارتقائي مُعبّد من نقطة بيولوجية الى أخرى. هذا لأن الارتقاء الأعمى الذي تبشّر به الداروينية لا يؤدي الى وجود الحياة ونجاحها في البقاء بسبب أن التطور الدارويني لا يعترف بوجود أهداف للطبيعة كهدف خلق الحياة. وبرهانه الأساسي على موقفه هو الآتي: بما أن البنيات الحية شديدة التعقد وغير مختزلة الى وحدات بيولوجية منعزلة، إذن الانتقاء الطبيعي والتحوّل العشوائي لا يفسّران نشوء تلك البنيات. على هذا الأساس يستنتج أنه يوجد مصمّم عاقل هو المسؤول عن خلق الحياة. يقول: الارتقاء الدارويني أعمى كونه خالياً من هدف بناء الحياة ونجاحها. فالآلية العمياء تفتقر الى عملية بناء مقصودة لصفة معينة واستمرارية تحسينها. من هنا يستنتج بيهي أنه من غير المتوقع وجود تطور متجانس لصفة معينة من منطلق النظرية الداروينية. وهذا ما يخالف الواقع البيولوجي. فبما أن البنيات البيولوجية معقدة بشكل هائل، إذن من غير الممكن أن تبنى من خلال عملية تدريجية وبطيئة كالتي تدعو إليها الداروينية ولذا الآليات الداروينية عمياء (Michael Behe: The Edge of Evolution. 2007. Free Press. PP.5 - 8.PP. 41 - 42. P. 102. PP. 112 - 113. PP. 121 - 122).يقدّم بيهي أمثلة تدعم موقفه منها المثل الآتي: الخلية الحية تشكّل كُلاً متماسكاً وغير عشوائي كأنها مصنع تم تأسيسه بعناية. على هذا الأساس يستنتج أن الأنظمة البيولوجية العملية والمتجانسة والأنيقة التي تعتمد عليها الحياة هي نتيجة تصميم عاقل. والتصميم هو الترتيب الهادف للأجزاء. فالخلايا مثلاً هي نتيجة تصميم هدفه خلق الحياة. بالنسبة الى بيهي، الكون كله، بما فيه الكون البيولوجي، محكوم بنظام عاقل وواع. فبينما مبادئ النظرية الداروينية توقعت وجود العشوائية والبساطة في البنية الحية، اكتشفت العلوم البيولوجية المعاصرة أن البنيات الحية منظمة وأنيقة ومعقدة الى حد كبير. ولا يكتفي بيهي بنتائجه تلك بل يمضي نحو اعتبار أن الكون كله نتيجة تصميم هدفه خلق الحياة. فيقول إن الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا تشير الى ذلك. فمثلاً، لو تغيرت القوانين الطبيعية ولو قليلاً ما كانت الحياة لتنشأ (PP. 146 - 147. PP. 166 - 168. P. 190. P. 202. PP. 204 - 208).أما الفيزيائي بول ديفيز فيعتبر أن الكون مكوّن بدقة قصوى بحيث أنه إذا كانت أي صفة للكون (كصفات ذراته أو توزيع مجراته) تختلف ولو قليلاً عما هي عليه ما كانت الحياة لتوجد. فمثلاً، الكربون والماء السائل ضروريان لوجود الحياة، والقوانين الطبيعية كأنها مكوّنة خصيصاً لنشوء الحياة. عالمنا في كل معالمه صديق مخلص للحياة. فمثلاً، يستحيل وجود الحياة في عالم بأبعاد مكانية غير أبعاده المكانية الثلاثة. وكما نعلم فقد نشأ الكون من جراء الانفجار العظيم. لكن لو كان هذا الانفجار العظيم لم يكن كبيراً كما هو لانهار على نفسه قبل نشوء الحياة. فالكون يتمدد بدرجة كافية لتنمو المجرات والنجوم والكواكب، لكن ليس ببطء شديد كي لا ينهار. هكذا الانفجار العظيم وما أدى إليه من تمدد للكون هما عنصران أساسيان لخلق الحياة وكأنهما اتخذا صفاتهما فقط من أجل أن تنمو الحياة. أما القوى الطبيعية (كالجاذبية والقوى المسؤولة عن تماسك الذرة) فهي مناسبة تماماً لوجود الحياة؛ فلو أنها أقوى بقليل أو أضعف بقليل ما كانت الحياة لتتمكن من الظهور: (Paul Davies: Cosmic Jackpot. 2007. Houghton Mifflin Company. PP.2_3. P.47 P.54. P.138. PP.142_143).هذا الإحكام في صناعة الكون لا بد من تفسيره. لذا يعرض بول ديفيز النظريات التي من الممكن أن تفسر لماذا الكون يصادق الحياة. ومن تلك النظريات نظرية الأكوان الممكنة التي تقول إن ثمة أكواناً ممكنة مختلفة وعديدة. بالنسبة الى هذه النظرية، تختلف الأكوان الممكنة عن بعضها البعض في موادها وقوانينها الطبيعية. من هنا، من الممكن تفسير وجود الحياة في عالمنا على النحو التالي: بما أنه توجد أكوان ممكنة عديدة ومختلفة تملك مواد وقوانين عديدة ومختلفة، فليس من المستغرب عندئذٍ وجود عالم كعالمنا يملك مواده وقوانينه الطبيعية بالذات التي تسمح بوجود الحياة. لكن ديفيز يستبعد نجاح نظرية الأكوان الممكنة في تفسير لماذا عالمنا يصادق الحياة لأسباب عدة هي: أولاً، إنها نظرية غير علمية لصعوبة إن لم يكن لاستحالة اختبارها والتأكد من صدقها. ثانياً، هذه النظرية تزيد من عدد الموجودات بشكل كبير من خلال قولها بوجود أكوان ممكنة وهذا فقط من أجل تفسير لماذا عالمنا يحتوي على الحياة. وهذا عادة مرفوض في العلم. ثالثاً، مسألة لماذا يوجود الوجود ما تزال مشكلة بالنسبة الى نظرية الأكوان الممكنة لأنه لا بد من وجود آلية طبيعية كي تختار هذه المجموعة من الأكوان الممكنة دون مجموعة أخرى. وبذلك تبقي نظرية الأكوان الممكنة مسائل غير مفسرة كمسألة مصدر القوانين الطبيعية المسؤولة عن نشوء الأكوان الممكنة (PP.151 - 152. PP.172 -173. P.209. P.220. P.264).من جهة أخرى، يقدّم ديفيز تفسيره الخاص فيدعو الى اعتبار أن الحياة والعقل أساسيان في الكون؛ فلا بد من النظر إليهما على أنهما يشتركان في خلق الكون كما تؤكد ميكانيكا الكم. على أساس ميكانيكا الكم يستنتج ديفيز أن العقل والحياة أساسيان في وجود الكون بدلاً من أن يكونا نتيجتي الصدفة. من هنا يقول إن ثمة مبدأ طبيعياً شبيهاً بالقوانين الطبيعية يحتم وجود الحياة والعقل، ولذا يتيح العالم وجودهما ويخلقهما بالفعل. هكذا يفسر ديفيز لماذا الكون صديق الحياة أي لماذا توجد الحياة في عالمنا. فللكون هدف طبيعي هو جزء من مبادئه الطبيعية، وهذا الهدف هو هدف بناء الحياة. أما بالنسبة الى ميكانيكا الكمّ فمن غير المحدّد ما إذا كان الجسيم جسيماً أم موجة، ولذا يتصرف الجسيم على أنه جسيم وعلى أنه موجة في الوقت ذاته. لكن تضيف ميكانيكا الكمّ قائلة إن الوعي يُحدّد طبيعة الجسيم فإذا نظر الى الجسيم وأبصره حينها يدركه إما على أنه جسيم وإما على أنه موجة؛ فالوعي يُحدّد ما إذا كان الجسيم جسيماً أم موجة. من هنا بالنسبة الى ميكانيكا الكمّ يلعب الوعي، وما يتضمنه من عقل وحياة، دوراً أساسياً في صياغة الكون. لكن الكون يخلق الحياة والعقل، وقد رأينا أن الحياة والعقل يخلقان الكون أيضاً. من هنا الكون يخلق ويفسّر ذاته. ويعترف ديفيز أنه أقرب الى قبول هذا الموقف (PP. 223 - 249. PP. 266 - 267).أخيراً، تعاني نظريتا بيهي وديفيز من مشكلة أساسية هي أنهما غير علميتين. فمهما كانت بنية الحياة تفسّرها نظرية بيهي على أنها كذلك بسبب ما أراده التصميم العاقل الهادف، كما تفسّرها نظرية ديفيز على أنها كذلك بسبب أن هدف المبدأ الطبيعي الخالق للحياة هو أن يخلقها كذلك. بالنسبة إليهما، بنية الحياة هي هذه البنية من دون تلك البنية بسبب إرادة التصميم العاقل أو بسبب هدف المبدأ الطبيعي. وبذلك مهما كانت بنية الحياة يتم تفسيرها من خلال إرادة التصميم أو هدف المبدأ الطبيعي ما يعني أنه يستحيل اختبار نظريتيهما لأنهما لا يحدّدان ما يجب أن تكون عليه بنية الحياة. لكن النظرية العلمية هي التي من الممكن اختبارها. من هنا نظرية بيهي ونظرية ديفيز غير علميتين. ويبقى السؤال: ما هي النظرية العلمية القادرة على تفسير الحياة؟








الرابط : http://www.almustaqbal.com/stories.aspx?StoryID=272352