الثلاثاء، 24 فبراير 2009

هل تتغّير قوانين الطبيعة وتختلف وتكذب؟



الفيزيائيون مارتن ريز ولي سمولن وجون ويلر:

هل تتغّير قوانين الطبيعة وتختلف وتكذب؟


حسن عجمي

تتناول هذه السطور طبيعة القوانين الطبيعية وإمكانية تغيرها واختلافها وكذبها. فننتقل من مواقف الفيزيائيين مارتن ريز ولي سمولن وجون ويلر وبول ديفيز الى فلسفة فان فراسن ونانسي كارترايت. هذا البحث المختصر يقدّم مثلاً واضحاً على تداخل العلم والفلسفة وتشكيلهما حقلاً معرفياً واحداً.تختلف النظريات العلمية في تحديد قوانين الطبيعة. فمثلاً، بالنسبة الى نظرية نيوتن F = ma، أما نظرية أينشتاين فتعتبر أن E= MC2. فبينما تعرّف نظرية نيوتن الكتلة M من خلال القوة والتسارع، تعرّف نظرية أينشتاين الكتلة M من خلال الطاقة وسرعة الضوء. هكذا يختلف قانون نيوتن عن قانون أينشتاين. أما بما خصّ نظرية النسبية لأينشتاين، فالكون حتمي. لكن بالنسبة الى نظرية ميكانيكا الكم، الكون غير حتمي. هكذا أيضاً تختلف النظريات العلمية في قوانينها ونظرتها الى الكون. لذا ما زال العلماء يبحثون عن النظرية الحقيقية الصادقة التي تتخطى كل النظريات الأخرى في نجاحها وقدراتها التفسيرية. هذه النظرية العلمية المرجوة هي التي تدعى "نظرية كل شيء"، ويظن العديد من العلماء أنها نظرية الأوتار التي تفسِّر العالم على أنه سمفونية أنغام. لقد رأينا أن قوانين الطبيعة تختلف من نظرية علمية الى أخرى. لكن، وإن لم تختلف تلك القوانين، القوانين الطبيعية ذاتها لا تحكم كل الوجود. فمثلاً لننظر الى الثقوب السوداء. تتشكل الثقوب السوداء جراء انهيار النجوم على ذاتها بفضل جاذبيتها الهائلة. فالثقب الأسود يملك كثافة لامتناهية وبذلك يبتلع كل ما يقترب منه. على هذا الأساس، القوانين الطبيعية تنهار في الثقوب السوداء. هكذا القوانين الطبيعية ليست مطلقة وليست الخطاب النهائي للخالق Millennium Press) (Stephen Hawking: The Theory of Everything 2002. Newفمثلاً، يعتبر الفيزيائي مارتن ريز أن من الممكن أن تكون القوانين الطبيعية متسامحة بحيث تؤدي الى وصفات طبيعية عديدة تسمح بوجود أكوان مختلفة. في هذا النموذج العلمي، الوجود كله ومن ضمنه الأكوان الممكنة محكوم بمبادئ أساسية، لكن تختلف قوانين الطبيعة من عالم ممكن الى آخر. هنا تغدو قوانين الطبيعة نتائج حوادث تاريخية مصدرها ما يحدث بالصدفة بعد زمن قصير من هذا الانفجار العظيم أو ذاك . فكل انفجار عظيم يؤدي الى عالم ممكن مختلف عن عالم آخر ينشأ من انفجار عظيم آخر. بالنسبة الى هذا التصوّر العلمي الذي يقدمه مارتن ريز، ثمة أكوان ممكنة مختلفة وعديدة إن لم تكن لامتناهية في العدد. على ضوء هذا التصور يفسِّر ريز لماذا يوجد عالم كعالمنا الواقعي يحتوي على الحياة وعلى قوانينه الطبيعية بالذات. فالسؤال هو: لماذا يوجد عالم كعالمنا بقوانينه وحقائقه بدلاً من عالم آخر بقوانين وحقائق أخرى؟ والسؤال قد يُطرَح بطريقة أخرى هي: لماذا يملك عالمنا الواقعي ظروفه التاريخية الأولى وقوانينه الطبيعية التي تسمح بنشوء الحياة بدلاً من أن يملك حقائق أولية وقوانين طبيعية لا تسمح ولا تؤدي الى نشوء الحياة؟ جواب مارتن ريز هو التالي: بما أنه توجد أكوان ممكنة مختلفة وعديدة إن لم تكن لامتناهية في العدد، فمن الطبيعي ومن المتوقع أن يوجد عالم ممكن كعالمنا يحتوي على الحياة وعلى قوانينه وحقائقه بالذات. مثل ذلك إذا دخلنا الى متجر لبيع الثياب حيث توجد ثياب مختلفة وكثيرة وبمقاسات عديدة فلن يكون من المستغرب أن نجد ثوباً بمقاسنا. هكذا بالنسبة الى ريز: مجرد وجود أكوان ممكنة عديدة بقوانين وحقائق مختلفة يجعل من الطبيعي وجود عالم كعالمنا Press) (Martin Rees: Our Cosmic Habitat. 2001. Princeton University. كل هذا يرينا أن ريز يفسِّر وجود عالمنا بالذات من خلال تنوع الأكوان واختلاف قوانينها الطبيعية. هكذا القوانين الطبيعية تختلف وتتنوع.أما الفيزيائي لي سمولن فيقول إن من الممكن أن تتغير قوانين الطبيعة. بالنسبة الى نموذجه العلمي، ثمة إمكانية أن ينتقل عالمنا الواقعي من حالة الى حالة أخرى. وكل حالة من حالات الكون تملك أبعاداً وقوانين طبيعية مختلفة عما تمتلكه الحالات الأخرى. وبذلك يكون الانفجار العظيم الذي أدى الى نشوء عالمنا ليس سوى حدث حديث من سلسلة أحداث الوجود وتحولاته. وكل حالة من حالات الكون تحكمها نظرية أوتار معينة ومختلفة عن نظريات الأوتار الأخرى التي تحكم حالات الكون المتنوعة. بالنسبة الى نظرية الأوتار العلمية، الكون يتكوّن من أوتار وأنغامها. وباختلاف ذبذبات الأوتار تختلف الجسيمات والطاقات. لكن توجد بلايين من الحلول لمعادلات نظرية الأوتار، وبذلك تتنوع نظريات الأوتار وتختلف. من هنا لا بد أنها تصدق في حالات الكون المختلفة. هكذا بالنسبة الى لي سمولن، ثمة أكوان ممكنة بقوانين طبيعية مختلفة لكنها مجرد حالات الكون المتنوعة التي يتحوّل إليها عالمنا، وبذلك تتغير القوانين الطبيعية وتختلف Books) .(Lee Smolin: Three Roads To Quantum Gravity. 2001. Basicبالإضافة الى ذلك، يختلف العلماء والفلاسفة حول ماهية القوانين الطبيعية، وتنقسم مواقفهم الى مذهبين أساسيين هما: المذهب الواقعي والمذهب اللاواقعي. بالنسبة الى الفلسفة الواقعية realism، القوانين الطبيعية موجودة فعلاً بشكل مستقل عنا وعما يوجد من أشياء وأحداث. أما الفلسفة اللاواقعية antirealism فتعتبر أن القوانين الطبيعية مجرد بناءات فكرية وأدوات لتفسير العالم وبذلك لا توجد بشكل مستقل عنا وعما يوجد. في هذا السياق يتخذ الفيزيائي جون ويلر John Wheeler موقفاً لا واقعياً (ليس بالمعنى السلبي) فيقول إنه لا يوجد قانون سوى قانون أنه لا يوجد قانون. بالنسبة الى ويلر، لا توجد قوانين الفيزياء بشكل مُسبَق بل هي انبثقت من فوضى الانفجار العظيم الكمي. فثمة مصدر لقوانين الطبيعة وبذلك هي ليست مطلقة وليست أزلية وثابتة. يؤكد ويلر على أنه لا يوجد شيء مطلقاً ولا يوجد شيء أساسي وغير قابل للتغير في ظل ظروف معينة. على هذا الأساس، يعتبر ويلر أن من الممكن للقوانين الطبيعية أن تتغير Company) .(Paul Davies: Cosmic Jackpot. 2007. Houghton Mifflinمن المنطلق ذاته، يصوّر لنا الفيزيائي بول ديفيز إمكانية تغير قوانين الطبيعة واختلافها. في هذا النموذج العلمي، القوانين الطبيعية محلية وليست فيدرالية أو عالمية. فكل منطقة من الوجود تشكّل عالماً ممكناً محكوماً بمجموعة قوانين طبيعية مختلفة عن القوانين الطبيعية الحاكمة لمناطق أو أكوان ممكنة أخرى. نظرية الأوتار تقدِّم لنا هذا التصور كما نظرية التضخم الأزلي. فالحلول المختلفة لنظرية الأوتار صادقة في أكوان ممكنة مختلفة في قوانينها الطبيعية كما أن اختلاف هندسات الزمكان في الأبعاد العديدة (التي تستلزم وجودها نظرية الأوتار) يؤدي الى اختلاف قوانين الطبيعة. فبما أن القوانين الطبيعية تتشكل على ضوء هندسة الزمكان، إذن مع اختلاف الهندسة الرياضية للزمان والمكان تختلف القوانين الطبيعية. أما نظرية التضخم الأزلي فتقدِّم آلية على أساسها تنشأ قوانين طبيعية مختلفة تحكم زمكانات وأكواناً متنوعة. بالنسبة الى التضخم الأزلي، يتعرض الفضاء الى تضخمات متتالية ومستمرة في نقاط مختلفة منه تنتج قوانين طبيعية مختلفة فتتشكل أكوان ممكنة متنوعة منها عالمنا الواقعي.من جهة أخرى، تقدِّم الفيلسوفة نانسي كارترايت حججاً عدة على فلسفتها اللاواقعية. بالنسبة إليها، القوانين النظرية لا تقول الحقيقة. فالقوانين التي تعبّر عنها النظريات العلمية تكذب وتخطئ ؛ فلا يوجد سوى ما يحدث من أحداث. كما أن الطبيعة تحتوي على غزارة وتنوع يجعل تفكيرنا غير قادر على فهم الكون وتحديده بشكل كامل. من هنا فإن معظم المفاهيم المجردة في الفيزياء تملك فقط أدواراً تنظيمية ولا تمثل صفات حقيقية للكون. ومن حجج كارترايت الحجة التالية المعتمدة على موقف الفيلسوف فان فراسن: يتم البرهان على صدق النظريات العلمية من خلال قدرتها التفسيرية. لكن القدرة التفسيرية لأي نظرية علمية لا تضمن صدق تلك النظرية العلمية ؛ فمن الممكن دوماً أن توجد نظريات وتفاسير أخرى للظواهر ذاتها التي تفسرها أي نظرية معينة. والفلاسفة لا يملكون أي برهان على أن القدرة التفسيرية للنظرية تضمن صدق النظرية. على هذا الأساس، القوانين الطبيعية التي تعبّر عنها النظريات العلمية تكذب. بالإضافة الى ذلك، تقدّم كارترايت حجة أخرى هي التالية: يبني العلماء نماذج علمية مختلفة بحيث يصف هذا النموذج بعض صفات الظاهرة بينما نموذج آخر يصف صفات أخرى للظاهرة ذاتها. وبذلك على كل نموذج أن يتجاهل قوانين النماذج الأخرى حين يفسّر ظواهر معينة وبذلك أيضاً لا يوجد نموذج واحد قادر على التعبير عن حقائق الظواهر وماهياتها. على هذا الأساس تستنتج كارترايت أن القوانين الطبيعية تكذب (Nancy Cartwright: How The Laws Of Physics Lie. 2002. OxfordUniversity Press) .لكن لماذا تتغير القوانين الطبيعية وتختلف وتكذب؟ تجيب السوبر حداثة على النحو التالي: بما أن من غير المحدَّد ما هي القوانين الطبيعية، إذن من الطبيعي أن تكذب قوانين الطبيعة وتختلف وتتغير. هكذا تفسِّر السوبر حداثة اختلاف القوانين وتغيّرها وكذبها من خلال عدم تحديدها القوانين الطبيعية ذاتها. فبالنسبة الى السوبر حداثة، اللامحدد يحكم العالم، لكن رغم تحديدية الكون من الممكن معرفته لأننا بفضل ذلك نتمكن من تفسيره.






الرابط : http://www.almustaqbal.com/stories.aspx?StoryID=296309