الخميس، 19 فبراير 2009

من النصّ إلى المعرفة في " السوبر حداثة " لحسن عجمي






في التّمكّن والإمكان

من النصّ إلى المعرفة في " السوبر حداثة "

لحسن عجمي


مدخل:
كثيرا ما كنا نقرأ عن ازدهار الحياة الأدبية والفكرية والعلمية في عصر ما وفي بلد حيث التخلف الاجتماعي والتدهور الاقتصادي . فلا نصدق أو نستغرب من المفارقات ونكاد نفنّد أو نجزم باستحالة نمو العلوم وظهور نوابغ الابتكار في ظروف الفقر فقر المفكرين ومحاصرتهم من جميع النواحي المادية والمعنوية ومما يؤكد ما نذهب إليه أن بعض الآثار العلمية لا يمكن لها أن تعرف إلا بدعم من السلطان أو من شاكل السلطان. وإن اختلف الأمر بالنسبة إلى سلاطين العرب في العصر الحديث الذين جعلوا للثقافة والعلوم وزارات ومركبات جامعية دون أن تثمر الأموال الطائلة ما يستحق الذكر في الإبداع والتنظير على المستوى العالمي أو حتى القومي. في حين نجد في الهامش من المبادرات الفردية التي تعاني الأمرّين بسبب حصار الرقابة ، رقابة المنع والإقصاء إلى جانب حصار الفقر وانعدام دور النشر التي تتبنى أعمال الإبداع المختلف ولا تشجع إلا بتوصيات السلط العلمية الداعمة للسلط السياسية المركزية والممولة لتأليف دون تأليف.
في أوطان تتناحر فيها الفئات على التقوى والترفيه كل شيء فيها مباح.. الفساد ، القتل ، الاغتيال ، التزمت والميوعة إلا كرسي السلطان وحاشيته.في هذا الهامش يكتب مفكرون قلائل في ظروف الإحباط بدمهم يدفعهم الشغف إلى التضحية بأقواتهم من أجل إصدار كتاب يشهد بالمواكبة والمبادرة بالجديد الذي ننتظر قدومه من الغرب بعد زمن طويل فنستهلكه بعد ذلك وعلى امتداد سنوات فقرون دون أن يكون لنا فيه دور المشاركة بالنقد .
حسن عجمي من بين أولئك االمتحدين كل العقبات يساهم مرة أخرى ليطلع على العالم من مجتمع الهزيمة بأحدث مبتكرات التنظير المفيد من الحداثة وما بعد الحداثة ألا وهي نظرية ما بعد "بعد الحداثة" يسميها "السوبر حداثة "علم الأفكار الممكنة".
تناول المبحث الثاني من كتاب حسن عجمي "السوبر حداثة" قضايا اللامحدد في النص والعلوم والوقائع والفلسفة والمعنى كما يتناول مسألة الشك واليقين والمعتقدات الراسخة فاللغة والكون والضروري والكاذب إلى جانب ما بعد الفن والأدب والأنواع الأدبية وما بعد المعنى لينتهي إلى مسألة المعرفة وخلاصتها ومسائل تقييم النظريات وأقرب المعارف وأبعدها فالسببية وعلاقة الكل بالجزء والاستقراء والاستبطان فنشوء الحياة والعقل والمعرفة.
هذا الفصل أو المبحث شأنه شأن كل الفصول تتعدد فيه أشباه العناوين بشكل لافت تشغل فضاء ورقيا من الصفحة الخامسة والعشرين إلى الصفحة الحادية عشرة بعد المائة وهذا ما يجعل الكتاب مغرقا في التجزئة دون أن يقع في التكرار أو السقوط في الدور مع السعي إلى الاختزال وتجنب الاستطراد الناقل وإن لم تغب بيداغوجيا الإفهام والتفهيم بالتبسيط والتمثيل والبرهنة المنطقية المتميزة بالدقة المعرفية العميقة الشاملة الحديثة والمختلفة وذلك ما قد لا يرضي المتشبثين بالمناهج التعليمية التقليدية ويشوق المفتنين بتخريجات الاختلاف مستجيبا لبعض من تطلعاتهم.


اللاّمحدّد في النّصّ


فحسن عجمي يتعلق بالشاذ أو ا للامحدد لينطلق في أبحاثه الممكنة على خلاف أصحاب النظريات القائلة بصرامة المحدد إذ يربط تميز نص عن نص آخر وتفرده بما يشتمل عليه من عناصر غير محددة "كل نص أو خطاب لديه بعض العناصر غير المحددة. هذه العناصر غير المحددة هي التي تميز نصا ما عن نص آخر" (ص 25) . والتمييز لا يكون بين نص ونص من حيث وجود العناصر غير المحددة وعدمها وإنما يشترط في العناصر غير المحددة أن تتميز عن عناصر لا محددة في نص آخر وهنا تكمن الصعوبة لأن الأمر لا يقتضي الاختلاف فحسب وإنما بنوع الاختلاف في اللامحدد . وهذا يتطلب معرفة نوعية بالعناصر اللامحددة في النص وهذا يمكن العارف الخبير من تحديد تلك العناصر وعدم الوقوع في وهم الاختلاف دون اختلاف "إذا وجد خطابان لديهما العناصر اللامحددة نفسها إذا هما يشكلان في الحقيقة خطابا واحدا." (ص25)
ويضع حسن عجمي منهجا بيداغوجيا لدراسة نص سمته المميزة عناصره اللامحددة وهذا المنهج يقسم تلك العناصر إلى ثلاثة أنواع:
1- اللامحدد في المفهوم
2- اللامحدد في المذهب
3- اللامحدد في العلاقة

ويفرد لكل قسم مبحثا
في القسم الأول يميز حسن عجمي بين المفهوم الأولي والمفهوم اللامحدد بعد أن يفصل القول في مسألة المفهوم الأوّلي الذي لا يحتاج إلى تحليل قائلا "ولقد وجدنا المفهوم الأولي هو الذي يميز مفهوما فلسفيا عن آخر. وبذلك المفهوم اللامحدد هو الذي يميز المذاهب الفلسفية عن بعضها بعضا." (ص26) . ويشير إلى "أن اللامحدد هو اللامحدد موضوعيا أي أنه لا محدد في الواقع. فاللامحدد لا يشير إلى جهلنا إذا قلنا أنه من غير المحدد (ا) نحن لا نقصد أننا نجهل ما هو (ا) أو نجهل ماذا كان (ا) موجودا. هكذا هو مفهوم اللامحدد في ميكانيكا الكم. بل اللامحدد هو مبدا أو مفهوم من خلاله نستطيع بحق بتفسير الكون وظواهره بنجاح." (ص ص26و27) . ولكن بالمقابل يضيف في ما يتعلق بالمفهوم الأوّلي الذي لا يحتاج إلى تحليل بقوله "نحن في الحقيقة لا نعتبر أننا لا نعرف ماهو هذا المفهوم بل ندّعي أننا نعرف هذا المفهوم لدرجة أننا لا نحتاج إلى تعريفه." ( ص27) . فادعاء المعرفة وعدم الاعتراف بالجهل يدعونا إلى وسم مفهوم ما بالأوّلي فالنعت متأتّ من ادعائنا لامن حقائق الأمور .
أما في القسم الثاني فيضرب مثلا بالحلاج ومذهبه اللامحدد . يقول حسن عجمي في تجربة الحلاج التي صارت ترجيعة في كل تدليل على ما هو اختلافي في الثقافة العربية الإسلامية رغم نوازع التهميش والإقصاء الناتج عن العمل بالمتمكن والتخلي عن (الشاذ الذي يحفظ ولا يقاس عليه) "المذهب الحلاجي مثل على اللامحدد في المذهب. فرضيتنا عن المذهب الحلاجي (نسبة إلى الحلاج) هي أنه من غير المحدد موضوعيا ماذا كان الخطاب الحلاجي خطاب كفرا أم خطاب إيمان انطلاقا من مثالين أولهما يخاطب فيه الحلاج قائلا:
" لي حبيب حبه وسط الحشا

إن يشا يمشي على خدي مشى"

ويعلن في ثانيهما كفره صراحة إذ يقول حسن عجمي: "ويضيف معلنا كفره "كفرت بدين الله والكفر واجب" والمرجع الديوان وكتاب أخبار الحلاج). (ص27)
يستخلص المؤلف أن معاني الألفاظ أو الجمل لدى الحلاج قد تكون وواضحة جدا أو صريحة في التعبير عن مدلولات الألفاظ في الدرجة الأولى وبناء على ذلك يبقى الخطاب الحلاجي غير محدد موضوعياً ما إذا كان خطاب كفر أو إيمان.
ولا يكتفي حسن عجمي بإبداء رأيه في مسألة اللامحدد بل يقدم وجهة نظر غيره المخافة فيناقشها كما يناقش في هذا الفصل وجهة نظر كوين القائلة بأن المعاني غير محددة إذ يقول "فاللامحدد في النص الذي نتكلم عنه هنا يختلف عن مذهب كوين القائل بأن المعاني غير محددة. بالنسبة إلى كوين معاني الألفاظ غير محددة لفظ ما قد يعني (ا) وقد يعني لا (ا) يل (ب)" (ص27)
والتفرقة في نظر مؤلف "السوبر حداثة" بين اختلاف اللامحدد في النص مع اللامحدد في المعنى يجسمها خيط فصل رقيق يجعل اللامحدد في النص متمثلا في القول الضمني أو العلني بأنه من غير المحدد ويجعل اللامحدد في المعنى متمثلا في أن معاني الألفاظ أو الجمل غير محددة.
في القسم الثالث من هذا المبحث يتناول حسن عجمي بالدرس العلاقات اللامحددة بين أجزاء الخطاب الواحد وابن تيمية مرجع بحث يعود إليه حسن عجمي مرة أخرى بالرغم مما نحمله عنه من صرة الفقيه وفي الرجوع مزية وفضل يكسران وهم الأفكار السائدة لاسيما وأن المرجع هنا خطاب ابن تيمية كما عبر عنه في كتابه "الرد على المنطقيين" فيقول حسن عجمي "في هذا الخطاب نجد ابن تيمية ينفي التمييز بين القول التحليلي (مثل " الزنجي أسود") والقول التركيبي (مثل " توجد شجرة قرب الدار"). يقول من الممكن أن نتصور زنجيا غير أسود فيستدرك حسن عجمي مشيرا أو مذكرا بأن القول التحليلي هو الذي يعتبر عادة يقينيا إذ من اليقيني الاعتقاد بأن أي زنجي هو أسود اللون فيستنتج أن ابن تيمية ينطلق من هذه المصادرة ليقول بنسبة اليقينيات ويضيف حسن عجمي منتهيا إلى صعوبة أو عدم استطاعة المرء التمييز بين القول التحليلي اليقيني والقول التركيبي الذي قد يكون خاطئا.
حسن عجمي يدرك خلفية الرؤية عند ابن تيمية وهي خلفية فقهية برهانية تنطلق من نسبية اليقيني إلى خطابه الفقهي الإسلامي الرامي إلى الإقناع بأن "المعرفة مطلقة ويقينية ومصدرها القرآن والسنة". ويتولد عن هذا الأمر كما يقول حسن عجمي "فبما أن ما هو يقيني بالنسبة إلى ابن تيمية هو يقيني بالنسبة إلى أولئك وبما أنه بالنسبة لنا كمسلمين المعرفة الآتية من القرآن والسنة بالنسبة له هي المعرفة اليقينية إذن فالمعرفة المعتمدة على القرآن والسنة بالنسبة له هي المعرفة اليقينية والمطلقة وكل ماسوا ها باطل" (ص28) والمرجع هنا (ابن تيمية الرد على المنطقيين. تقديم وضبط وتعليق رفيق العجم الطبعة الأولى1993. دار الفكر اللبناني)
يذهب حسن في نقده لهذا التوجه إلى إبراز مواطن الخطأ فيه إذ من غير الصواب القول بأن نسبية المعرفة توصلنا إلى ضدها أي كما يقول مؤلف الكتاب "من الخطأ القول بأن نسبية المعرفة توصلنا إلى المعرفة اليقينية المطلقة" (ص29) كما أن قول العكس خطأ ، كما إنه من الخطأ القول بأن نسبية المعرفة لا توصلنا إلى المعرفة اليقينية المطلقة. (ص29 ).
مع ذلك فحسن عجمي ينفي عن خطاب ابن تيمية ما هو محدد موضوعيا حول ما إذا كانت نسبية المعرفة أو لا نسبيتها توصلنا إلى المعرفة اليقينية أم لا وبكلام آخر كلام مولف "السوبر حداثة" من غير المحدد موضوعيا ما إذا كان هناك تواصل أو انفصال بين مذهب نسبية المعرفة ومذهب لا نسبية المعرفة في خطاب ابن تيمية. (ص29).
يدحض حسن عجمي مذهب ابن تيمية ويعتبر خطابه ضربا من التناقض الذاتي إذ من الخطأ والقول له "القول بأن نسبية المعرفة توصلنا إلى لا نسبية المعرفة. كما إنه من الخطأ القول بأن لا نسبية المعرفة لا توصلنا إلى لا نسبية المعرفة (في خطاب ابن تيمية طبعا) (ص29)
يعلل حسن عجمي في حكم قد مع الماضي قائلا "لأنه كما رأينا يظهر أن ابن تيمية قد توصل إلى خطابه الإسلامي ذي المعرفة اليقينية المطلقة من خلال نسبية المعرفة. فاللامحدد في خطاب ابن تيمية هو العلاقة بين مذهبه النسبي في المعرفة ومذهبه اللانسبي في المعرفة وبالتحديد اللامحدد هنا هو إذا ما كان مذهبه اللانسبي في المعرفة معتمدا على مذهبه النسبي في المعرفة." (ص29)
ويبقى السؤال ليعود حسن عجمي إلى مسألة اللامحدد في العلاقة وكيف يتضح في العلاقات القائمة بين خطابات متعددة ومختلفة كالتوراة والإنجيل والقرآن إذ من غير المحدد موضوعيا تبين نوع العلاقة أكانت علاقة إقصاء أو حلول خطاب محل آخر أو علاقة دعم أو كما فتكميل "إذ يقول عجمي" وبذلك العلاقة هنا بين القرآن من جهة والإنجيل والتوراة من جهة أخرى هي علاقة غير محددة فعلا. فمن منطلق ما نجد أن القرآن يعتبر أن الإنجيل والتوراة محرفان ونجده يقول إن الدين عند الله الإسلام ومن منطلق آخر نجد القرآن يعتبر أن أتباع الإنجيل والتوراة من المؤمنين..." (ص30)


اللاّمحدّد في العلوم والفلسفة

مسألة اللامحدد في النص تليها مسائل اللامحدد في العلوم والواقع والفلسفة والشك واليقين والمعنى والسؤال هنا هل أن هذه المعارف توازي النص أم تناقضه أو أنها متولدة عنه أو هي امتداد له لكن قبل الإجابة عن هذا السؤال نشير إلى أن حسن عجمي انطلق في المبحث الفرعي الخاص باللامحدد في العلوم من مصادرة تقول بانقسام الفلسفة إلى نظريتين واحدة واقعية والأخرى غير واقعية. ونجاح النظرية يعزى إلى كونها صادقة في مجالي التفسير والتنبؤ . أما النظرية اللا واقعية فتقوم على مبدأ القبول بقطع النظر عن كونها صادقة أو كاذبة إلا أن حسن عجمي يعلن اتجاها ثالثا ينادي به قائلا "الاتجاه الثالث الذي ننادي به هو أنه من غير المحدد موضوعيا أي نظرية علمية من بين النظريات العلمية العديدة هي الصادقة" (ص31). وعلى أساس نفي صفة التحديد المميز للنظرية العلمية عن غيرها يفسر تكون الكون فيقول "أي الكون قد كون على أساس أنه من غير المحدد أي نظرية علمية هي النظرية الصادقة. فالإله الذي خلق الكون لم يعتمد على نظرية علمية معينة من خلالها خلق الكون" (ص31).
أما عن معيار النجاح فلا يراه حسن عجمي حجة على صدق نظرية علمية ما في حين "أن الاتجاه اللامحدد في العلوم يفسر لماذا توجد نظريات علمية مناقضة لبعضها رغم نجاحاتها" (ص ص 31 و32) بخلاف المذهب الواقعي في العلوم الذي لا ينجح في تفسير نظريات علمية ناجحة ومناقضة لبعضها بعضا. فالمذهب الواقعي يعلل النجاح بالصدق (ص 32) . وبهذا المنهج الحجاجي الجامع بين حذق الفهم والتفهيم ونقد النظريات منسوبة إلى أصحابها متجاوزا أحيانا متوقفا أخرى عند النتائج يواصل حسن عجمي بحوثة في مسائل اللامحدد قي الفلسفة والشك واليقين والمعتقدات الراسخة واللغو والكون والمعنى فيقول في صدارة فصله الخاص باللامحدد في الفلسفة "الفكرة الأساسية التي نرغب في الدفاع عنها هي أنه من غير المحدد ما هو المذهب الفلسفي الصحيح أو المقبول" (ص45) إلى أن يقول "هذه النتيجة لا تعني أننا لابد أن نتوقف عند إبداع نظريات جديدة في الفلسفة. بل نستطيع بحق أن نبني نظريات وتحليلات جديدة لمفاهيم عدة رغم أنه في النهاية هذه النظريات أو التحليلات هي غير محددة ما إذا كانت صادقة أم لا. هنا وظيفة الفلسفة هي إثراء التراث بمذاهب جديدة قادرة على بعض المشاكل الفلسفية." (ص46)
حضور حسن عجمي لم يكن في مقدمة الكتاب فحسب كما يذهب بعضهم وإنما في كامل مداخل الكتاب ومخارجه وما يقتضي ذلك من جهد الذكاء المعرفي في تفصيل القول في مسائل هي إلى أهل الاختصاص أقرب في ورشات عمل فكرية تعتمد المنطق الرياضي في النقاش والجدل البرهاني موقفا وتفصيلا كأن يقول "أما النظرية السببية في الشرط فهي نقيض النظرية الشرطية في السببية. بالنسبة إلى النظرية السببية في الشرط إذا لم يوجد (ا) ما كان ليوجد (ب) إذا فقط إذا (ا) يسبب (ب)." (ص 46 وص 47)
وبعد أن يتحدث حسن عجمي عن النظرية الوظيفية في العقل وكيف تعتبر أن الحالات العقلية ليست سوى وظائف كتلك الوظائف التي لدينا. يقارب بالتمثيل النقلي والعقلي مظاهر النقد المتعلقة بالرجل المريخي وما إذا كان له من عقل مسبقا فيقول "هذا النقد القائل بأنه من الممكن أن ذاك الرجل المريخي يملك عقلا يسلم مسبقا بما أراد أن يبرهن عليه فهو يسلم مسبقا بأن النظرية الوظيفية خاطئة." (ص56)
يختم حسن عجمي فصل اللامحدد في الفلسفة بقوله "هذا بما أننا لا نستطيع بحق اعتبار أي نظرية مقبولة وبذلك لا نستطيع بحق اعتبار أن النظريات كافة مقبولة." (ص57)

الشك واليقين


بنفس المد والجزر القائم على (ماذا كان و أم ولا وأما ولكن) يراهن للبرهنة على المذهب اللامحدد في المعرفة من خلال حجج يثبتها في فقرات منها "أن نظام معتقداتنا يشير إلى كل معتقداتنا" (ص59). وبعبارة أخرى كل جزء من نظام معتقداتنا يحدد كل اعتقاد لدينا ومن هنا الآن يأتي عجزنا عن البرهنة على صدق نظام معتقداتنا أو عن خطئه لأننا نحتاج في المقابل إذا ما أردنا البرهنة على الصدق أو الخطأ إلى استخدام بعض المعتقدات التي ليست سوى أجزاء من نظام معتقداتنا وهذا يجعل من المستحيل التمكن من البرهنة على الصدق أو الكذب بطريقة تنجينا من الوقوع في ما يسميه حسن عجمي بالدور البرهاني (ص60)
وفي نطاق ما يدعيه المذهب الشكي بعدم امكان الحصول على المعرفة يرجع حسن عجمي إلى السبب التالي "لكي نعرف أي (ا) لابد أن يكون لدينا برهان على صدق (ا). وبذلك إما أن نقع في سلسلة لا متناهية من البرهنة على المعتقدات كأن نبرهن على (ا) من خلال (ب) وعلى (ب) من خلال (ت) وعلى (ت) من خلال (س) الخ وإما أن نقع في الدور كان نبرهن على (ا) من خلال (ب) وعلى (ب) من خلال (ت). وفي كلتا الحالتين تفشل عملية البرهنة وبذلك من المستحيل الحصول على المعرفة . هذا بالنسبة إلى المذهب الشكي" (ص60) أما المذهب اليقيني أو اللاشكي فيقول فيه "أما المذهب اللاشكي فيدعي أنه من الممكن أن نعرف (ا) من دون البرهنة على صدق (ا) بل يكفي الاعتقاد ب (ا) وتكون (ا) صادقة. وبذلك نستطيع بحق معرفة (ا) من دون السقوط في سلسلة لا متناهية من البرهنة أو من دون السقوط في الدور البرهاني" (ص60 وص61)
والمذهبان لا يسلمان من الإيقاع في مقولة المصادرة على المطلوب وهذا ما يجعلهما حسب عجمي خاطئين "بما أن كلا من المذهب الشكي والمذهب اللاشكي يقع في المصادرة على المطلوب إذا كلاهما خاطئ" (ص61) ولعل حسن عجمي يرى أن واحدا لا بد منهما خاطئ حسب ما يفهم من قوله مستدركا "لكن إما المذهب الشكي وإما المذهب اللاشكي خاطئ. بذلك من غير المحدد ما إذا كان المذهب الشكي خاطئا أم لا أي من غير المحدد ما إذا كان المذهب الشكي أو المذهب اللاشكي هو المذهب الخاطئ أو الصادق." (ص 61)
على أن مؤلف الكتاب يضيف في أسلوب لا يخلو من تعليمية تعتمد التكرار أحيانا والتعبير عن الفكرة الواحدة بطرق ممططة في غير إشعار بالملل بأهمية تميز المذهبين بالقدرة التفسيرية إذ يفسر كل منهما ما نرى وندرك من خلال وجهتي نظر مختلفتين تقوم الأولى على مبدأ وجود شيطان شرير وتقوم الثانية على مبدأ الأشياء القائمة "الآن المذهب الشكي يفسر ما نراه وندركه من حولنا من خلال أنه يوجد شيطان شرير يغشنا كلما نظرنا إلى الكون. مثال ذلك أننا نرى أو ندرك أن هذه طاولة لأن الشيطان الشرير يغشنا ويجعلنا نرى أو ندرك أنها طاولة رغم عدم وجودها أو عدم كونها طاولة. هي القدرة التفسيرية للمذهب الشكي أما المذهب اللاشكي فهو أيضا له قدرة تفسيرية حيث يفسر ما نرى وندرك من الأشياء القائمة. مثال ذلك أننا نرى أو ندرك أن هذه طاولة لأنها فعلا طاولة. هذه القدرة التفسيرية التي يملكها المذهب اللاشكي" (ص62) . ينتهي حسن عجمي إلى نتيجة غير نهائية تؤيد ما ذهب إليه وتؤكد استحالة البرهنة على صدق أحدهما معلنا استطاعتنا الوصول إلى هذه التنيجة المرجوة بطرق مختلفة ويورد مثالا يجعل فرضية معرفة أكانت القطط حيوانات أم لا غير محددة "نستطيع بحق أن نصل إلى نتيجتنا المرجوة بطرق مختلفة. مثال على ذلك اعرف أن القطط حيوانات. هذا لأن تعريف القطط هو أنها حيوانات لكن في الوقت نفسه لا أعرف أن القطط حيوانات. هذا لأنه من الممكن أن القطط ليست حيوانات بل آليات ترتدي أشكالا وتحمل أفعالا قططية. من هنا من غير المحدد ما إذا كنت أعرف أو لا أعرف أن القطط حيوانات" (ص62 وص63)
الحجج السابقة تطبق حسب عجمي على أي مذهب فلسفي وهكذا فإن فرضية اللامحدد تفسر بنجاح لما نملك حدوسا وحججا متناقضة وهذا يؤدي إلى عدم وجود معيار محايد من أجل تقييم النظريات وبكلام آخر يقول حسن عجمي في خاتمة هذا الفصل "تنقسم المذاهب المختلفة فتشكل معتقدات مختلفة منسجمة ذاتيا ومعارضة أو نقيضة لمعتقدات المذاهب الأخرى التي تتشكل من معتقدات منسجمة ذاتيا هي الأخرى." (ص64) وبناءً عليه تستحيل البرهنة بمنأى عن السقوط في المصادرة على المطلوب. "وبما أن كل مذهب يتشكل من معتقدات منسجمة ذاتيا ومناقضة لأي معتقد في أي مذهب آخر إذ يستحيل علينا البرهنة على كذب أو صدق مذهب ما دون آخر دون السقوط في المصادرة على المطلوب." (ص64) . وهكذا يكون السقوط في المصادرة على المطلوب في هذا الكتاب مذكرا بالسقوط في الدور في كتاب مقام المعرفة.


المعتقدات الراسخة

يستخلص حسن عجمي مما يجريه من جدل رياضي أن الطريق الوحيد للحكم على النظريات الفلسفية هو من خلال معتقداتنا الراسخة إذ يقول "فالنظرية الفلسفية الصحيحة هي تلك التي تعبر قدر الإمكان عن كل معتقداتنا الراسخة." (ص67) كما يستخلص من المستخلص أنه من غير المحدد ما إذا كانت أفعالنا مرتبطة مسبقا بمعتقداتنا ورغباتنا أم أن الكل ليس سوى مجموع أجزائه."(ص68)
ولا يخفي حسن عجمي ما يسببه لنا هذا الموضوع من حيرة قلقة تمتد نحو المعرفة والمستقبل. وانطلاقا من مثال إشراقة الشمس غدا وعلاقتها بالمعرفة إذ "يقول إن حدث شروق الشمس في الغد يسبب معرفتنا الآن بأن الشمس ستشرق غدا. هذه الحجة ترينا أن إمكانية وجود المعرفة تؤدي إلى نتيجة أن المستقبل أو ما يوجد في المستقبل يسبب الحاضر والماضي." (ص70)
ومن خلال البحث في المسألة يرى مؤلف هذا الكتاب أنه من الممكن تطبيق هذه المنهجية على المعتقدات كافة مثال ذلك "من غير المحدد موضوعيا ما إذا كان الوجود أو الكون يوجد مستقلا عن إدراكنا أم لا." (ص71) . ويبقى اللامحدد ملاذ الخروج من كل ورطة في مجال النظريات والمعتقدات الراسخة.


اللغة والكون
في هذا الفصل يتحدث حسن عجمي عن التفسير المتعالي والتفسير الدارويني والمعرفة المكتسبة والمعرفة الأولية وعلاقة ذلك باللغة والتجربة فيقول "هذا لأن لغتنا تملك تأثيرا قويا على تحديد مضامين التجارب ومضمون المعلومات الأولية ففقط من خلال اللغة نعي المعلومات المتأتية من التجارب والمتأتية من المعلومات الأولية." (ص78) ويوضح فكرته باعتماد مثال النمر ويدلل على أن اللغة تحدد مضامين تجاربنا بقوله "من الممكن أن نرى (ب) على أنه نمر أو على أنه الشيء المالك لصفات معينة . فلماذا ندركه بالطريقة الأولى دون الثانية أو العكس ندركه بالطريقة الأولى لأنه في لغتنا يوجد مصطلح النمر ونطبق هذا المصطلح على العالم من حولنا مما يجعلنا نرى نمرا بدلا من رؤية صفات (ب). فلو أننا نفتقد لمفهوم النمر ما كنا لقادرين على إدراك أو رؤية (ب) على أنه نمر وبدلا من ذلك لرأينا شيئا يملك صفات معينة كصفة أنه مفترس للبشر." (ص79).
ويستخلص حسن عجمي قائلا "هذه المحاولة ترينا أن التجربة تمسي مصدرا لمعرفة ما في العلم لذا وفقط إذا تدخلت اللغة فحددت مضمون التجربة" (ص80). ويضيف إلى ارتباط تغير التجارب بتغير اللغة وبالتالي تتغير معرفتنا بالعالم مع تغير لغتنا والتجربة ليست وحدها مصدرا للتجربة بل لابد من تدخل اللغة لتمسي التجارب مصدرا للمعرفة .
ويمضي حسن عجمي بهذا النفس الحجاجي مبرهنا على الأمر ونقيضه على صلوحية اللامحدد في المعنى والضروري الكاذب ودور العوالم الممكنة في اكتشاف أنواع لغوية جديدة ممثلا باكتشاف كربكيkripky للعبارة الضرورية المكتسبة necessary a posteriori فيقول "الماء هو H2O. للماء دلالة صلبة فهو يشير إلى H2O في كل عالم ممكن. من هنا من الضروري أن الماء هو H2O ففي كل علم ممكن الماء هو H2O. لكن لا نستطيع معرفة أن الماء هو H2O سوى من خلال معرفة مكتسبة بالتجربة فالعلم هو الذي مكننا من معرفة أن الماء هو H2O. على هذا الأساس اعتبر كربكي أن عبارة "الماء هو H2O " هي عبارة صادقة بالضرورة رغم أن معرفتها مكتسبة فأسس لمقولة جديدة هي الضروري المكتسب والمرجعand Necessity. 1980 Harvard) UniversityPress. Saul kripke Naming )
يتواصل فصل من النص إلى المعرفة ليشمل ما بعد الفن والأدب والأنواع الأدبية والمعنى فتقييم النظريات والاستقراء والاستبطان وصولا إلى نشوء الحياة والعقل والمعرفة ليقول في مسألة المعرفة الممكنة والمذهب الشكي "ختاما ومن المنطلق السابق من غير الممكن وجود شيطان يغشنا كلما حاولنا إدراك العالم لأنه لا يوجد قانون طبعي يقول إذا وجد الشيطان الغشاش لاستحالت المعرفة بالنسبة لنا فمفهوم الشيطان لا يدخل ضمن قانون طبعي. من هنا المعرفة ممكنة والمذهب الشكي خاطئ" (112 )
بتخريجات طريفة علمية تزعزع ما ثبت من أوهامنا ، أوهام الإيمان بالتمكن ، تمكن الفكرة الواحدة فينا إلى الانفتاح على عوالم الأفكار الممكنة مما يبشر بلانهائية الخلق الغوي وبالتالي لانهائية الخلق المعرفي في ظل ديمقراطية المعرفة والإبداع المختلف.

محمّد خريّف: كاتب وناقد تونسي