الاثنين، 23 فبراير 2009

الوعي السوبر حداثي






في ثلاثيته الجدلية " السوبر مستقبلية ... السوبر حداثة ... السوبر أصولية " يبذل حسن عجمي جهداً لافتاً لتوطين المعرفة الحديثة، فيطرح السوبر حداثة كمنتج ثقافي عصري كاشف للحداثة وما بعدها، بما هي مختبر لفحص الممكنات في الفكر والسلوك، وبما هي حقل مفتوح لتنوع النظريات في الموضوع الواحد وتعارضها، على اعتبار أنها - أي الممكنات - تشكل نظماً فكرية عديدة ومختلفة فيما بينها، فالسوبر حداثة تسعى في الأصل إلى بناء نظريات علمية ناجحة وصادقة في عوالم ممكنة، وتقول بقدرة العلم على التعبير عن الحقائق في تلك العوالم التي قد يكون من ضمنها عالمنا الواقعي، وإن لم يجزم بدخولنا إلى عصر السوبر حداثة.
ولأن الحداثة تمتلك مضموناً محدداً ترى أن العالم موضوعي، وعليه تعتبر العالم الواقعي قائما بذاته ومستقلاً عن العقل، فيما تقول ما بعد الحداثة التي تمتلك مضموناً نقيضاً للحداثة بلا موضوعية العالم، وعدم استقلاله عن العقل، بل هو نتيجة بناءات عقلية. أما السوبر حداثة التي يختلف مضمونها باختلاف الممكنات، فتدرس الممكنات كممكنات أي كموضوعات متحركة في العالم الواقعي، قائمة بذاتها كبناءات عقلية، بمعنى أنها مستقلة عن العقل ومعتمدة على العقل في آن، الأمر الذي يفسر تنوع تعريفاتها واختلاف وظائفها، على اعتبار مركزي يقوم على دراسة الممكنات لا الحقائق، أي الممكن وليس الصادق، وما هو معرفة وليس حقيقة.
وفيما تعترف الحداثة بنظام فكري واحد صادق ومقبول، بحثاً عن اليقين، تتجه ما بعد الحداثة نحو التعددية، تهواماً في اللايقين مدعية أنه صفة ملازمة للعلم، فتقول بعدم أفضلية نظام فكري أو سلوكي على آخر، لكن السوبر حداثة تؤكد على التعددية في الفرد ذاته، إذ من الضروري أن يكون للفرد جملة من النظم الفكرية المتعددة، فتدرس اللامعقوليات على أنها معقوليات وتدرس اللايقين على أنه يقين، وتفحص الأفكار الممكنة وتطور أفكار اللامعقول واللايقين على أساس انها صادقة في عوالم ممكنة، وبموجب هذا التقعيد يمكن القول أن الحداثة معنية في الأصل بتحليل المفاهيم القديمة أو التقليدية، وما بعد الحداثة ملزمة بتخليق المفاهيم الجديدة، فيما أخذت السوبر حداثة على عاتقها نفي المفاهيم، القديم منها والجديد، وهو الأمر الذي أسس لفكرة نفي وجود المثقف ومدلوله.
إذاً، الحداثة شكل من أشكال الإقرار بالقيمة المعرفية المطلقة اللا متبدلة، وبعقلانية الواقع، بينما يقوم المذهب الشكوكي لما بعد الحداثة الرافضة لذلك الإطلاق المعرفي على زعزعة مفاهيم الموضوعية والحقيقة والمعايير والعقل، وينهض على لا عقلانية الواقعي والعكس، أي لا واقعية العقلاني، ومقابل هذا الافتراق تعتبر السوبر حداثة أن الوهمي عقلاني والعقلاني وهمي، لأن العوالم الممكنة التي من ضمنها عالمنا الواقعي وهمية، فالأوهام هي العوالم الممكنة، والمعنى هو مجموع اللا معاني، والمعرفة هي مجموع اللا معرفيات التي تشكل العوالم الممكنة، وعلى هذا الأساس ارتقت بالمعرفة المطلقة لتجعلها مجموع المعارف النسبية، فتاريخ المعرفة هو تاريخ نسبية المعارف وتبدلها.
هكذا استسلمت الحداثة لفكرة التراكم والترابط والإتصال المعرفي، ولوجود مجموعة قيم ثقافية صادقة من بين مجموعات القيم المختلفة، ومن غير الممكن تفضيل بعضها على بعضها الآخر، نتيجة إيمانها بوجود جوهرانية للأشياء، التي بفضلها تصبح على ما هي عليه، فيما عارضت ما بعد الحداثة المؤسسة على الانقطاع التاريخي للمعرفة، والرافضة لجوهرانية الأشياء، ذلك الارتهان لقيمة بذاتها، مؤسسة لمفهوم " الاختلاف " لتتجاوز السوبر حداثة كل ذلك نحو الممكنات، فقالت باتصالية تاريخ المعرفة وانقطاعيته في آن، من أجل كشف أو خلق قيم المستقبل الممكنة، أي التوغل فيما لم يتم التفكير فيه، أو لم ينوجد من قبل، فهي إذ تعترف بوجود الجواهر، تعتقد بأنها موجودة ومتعددة في العوالم الممكنة وغير متوفرة في عالمنا الواقعي.
من الممكن، بتصور الحداثة التي تقول بأن مصدر المعرفة هو العالم الخارجي، أو البنية المسبقة لعقولنا، وتقبل بوجود أسس وماهيات، التحاور بين المنتمين الى ثقافات مختلفة، ولكن من غير الممكن، حسب ما بعد الحداثة التي تقول بأن مصدر المعرفة هو المجتمع أو السلطة، الرافضة لتلك الأسس والماهيات، التفاهم بين المتحدرين من ثقافات متباينة، أو هكذا تزعم نتيجة تبنيها فكرة النسبية الثقافية. من جهتها تقول السوبر حداثة بإمكانية التفاهم والتحاور في بعض العوالم الممكنة حيث نحيا أحياناً كما هو الحال في الواقع، وليس في كل العوالم، حيث يتم تخليق الأسس والماهيات من خلال دراستها كممكنات، حيث المعرفة تشكل حقلاً قائماً بذاته ومستقلاً عن أي عالم مادي في الخارج أو سلطوي أو داخلي مسبق في العقول.
ربما لهذا السبب ترى الحداثة أن أي نظام اعتقادي هو نظام عقلاني، وتدعي أن المشاكل الفلسفية هي حقاً مشاكل حقيقية وتحتاج إلى نظريات فلسفية معقدة لحلها، فيما تعتقد ما بعد الحداثة أن مفهوم العقلانية مفهوم فارغ بحيث أنه من الخطأ اعتبار نظام فكري معين عقلانياً وآخر لا عقلانياً، وأن المشاكل الفلسفية هي مشاكل كاذبة لأنها في الحقيقة مجرد تخبط لغوي، وبالمقابل تعلن السوبر حداثة أن العقلانية قائمة على أن أي فرد هو عقلاني إذا عرف هذا الفرد بأن معتقداته تخرق مبادئ المنطق، وتتنبأ بحقيقة أن المشاكل الفلسفية هي حقا مشاكل حقيقية لكن حلها يتم من خلال ايضاح معاني المفاهيم.
يحدث كل هذا التجاوز من خلال مثقف سوبر حداثي غير موجود، لأن مفاهيم المعيار والحقيقة والمعرفة بالنسبة له مستبدلة بمفهوم الممكنات، أي كبديل للمثقف الحداثي، مالك المعيار للحكم على المعتقدات وصاحب الحقيقة والمعرفة المرتهن لمعيار صحيح وحقيقة أو معرفة قارة، وكبديل أيضاً للمثقف المابعد حداثي الناقد والرافض لذلك المعيار، لأن المعيار متكثّر، والحقيقة والمعرفة نسبية، فالسوبر حداثة لا تقول بالمعرفة، بل تنتعش في الممكنات ، أو هكذا تعزز أحلام الفلاسفة الكبار على اعتبار وجود عقل كوني.

محمد العباس


الإقتصادية – الثلاثاء 1 مايو 2007

الرابط : http://www.aleqt.com/2007/05/01/article_89736.html