الجمعة، 27 فبراير 2009

السوبراصولية .. ازمة العلاقة بين الاصولية والحداثة


انبرى كثير من المفكرين لوضع حلول لمشاكل الثقافة العربية التي يجب ان نقول على اقل تقدير انها ساهمت بشكل مدمر "لما خلقته من بنى هشة رثة لم تستطع الصمود بوجه التحديات التي يواجهها الشعب العربي" بايصال الحالة
العربية الى نهاية مسدودة لم تعد تنفع معها العودة الى الوراء لذلك وجب تفكيك الجدران المانعة لاعادة المشروع الثقافي العربي لجادة الصواب وبالتالي حلحلة الوضع العربي بصورة عامة لان حل الازمة العربية هو حل ثقافي راديكالي لا حل سياسي سطحي.
وعندما عاد وقرأ المفكرون هذا الواقع وجدوا ان اهم المشاكل هي مشكلة علاقة العرب بتراثهم القديم المزدهر الذي وجدوا فيه مثالا متكاملا او حالة تعبر عن نقيض ما وصلت اليه مصائرهم وعلاقة العرب بالحاضر الغربي الذي يحاصرهم بمنجزاته العلمية والفكرية ، فنرى مثلا محمد عابد الجابري يهتم في اغلب كتبه بهذه المشكلة ان لم تكن كلها وكذا ادونيس وعلي حرب ولم يكن الفكر العربي المعاصر وحده من وعى لهذه المشكلة فمحمد عبدة والافغاني ومن ثم طه حسين حاولوا في كتاباتهم ايجاد علاقة رابطة اوصيغة جامعة تحكم علاقة تراثنا العربي بالحاضر الغربي . وهذا الهاجس امتد الى المفكر اللبناني حسن عجمي وكتابه الجديد " السوبر اصولية " الذي يبدأ فيه عجمي بالقول اننا نحن من نصنع التراث اي نصوره ونخلقه ونسقط عليه اراءنا ومسبقاتنا امالنا ونوايانا اذن ان التراث (وفي مضماره الاسلامي : الدين) هو متغير وبهذا يقارب الكاتب المفهوم العلماني ولكنه يقوم بخطوة الى الوراء لاستيعاب التيار الاصولي فيقول فقط في الحاضر الدين متغير ولكنه ثابت او متشكل في المستقبل ، لذلك فهو يلغي المشكلة وهي ازمة العلاقة بين الاصولية والحداثة التي اندمجت في نظرية عجمي السوبر اصولية : اي الدين الاصيل المتحقق في المستقبل بعد ان مر بسلسلة من الصيرورات التي تكتسب كلها الصحة بما انها تمثل الاتجاه نحو الصدقية فلا فضل لمذهب على اخر لانها تكتسب جميعها نفس القابلية التمثيلية لحقيقة النص ا
لاسلامي اللامتحقق الا في المستقبل . وتمتد نظرية "عجمي" لتربط علاقة بين العلم والدين اي المكونات المفاهيمية للحداثة والاصولية ؛ والعلاقة استمرار للفصل ما بين صيرورة التراث التي لاتمثل التراث وخاتمته ومستقبله لذلك لا يكتسب التراث (اي الدين) مصداقية اكبر من مصداقية العلم لانهما نواتج قراءة بشرية بعيدة عن اي قدسية .
اضافة الى هذا البرهان فالكاتب يقترح ما يسميه بنظرية الاكوان المختلفة التي يقول فيها ان بالرغم من عدم احتكار الحقيقة لاي من العلم او الدين ولكن يجب ان لا تظل العلاقة حربا لاجل النفوذ ومراكز القوة لذلك يقول عجمي ان الدين صحيح في اكوان تسمح للدين ان يكون صحيحا وهي اكوان الروح والمشاعر والاعتقادات والعلم صحيح ايضا ولكن في اكوان اخرى تسمح له بان يكون صحيحا وهي اكوان المادة والفيزياء والشك ، فلا نستطيع حسب فهم عجمي هذا الاستغناء عن الدين او العلم لان باستغنائنا عن احدهما استغنينا عن جزء من حياتنا لذلك لن نستطيع العيش .
وينتقل عجمي الى جزء مهم في صراع الحداثة والاصولية وهي مسألة الاخلاق والتي يقول عنها عجمي انها قائمة في المستقبل فقط ونحن الان في الحاضر ولسنا في المستقبل اذا لابد من البحث الدائم عما هو اخلاقي وفي رحلة البحث هذه تكتسب جميع الاخلاق المقدار نفسه من الصحة لان الفضيلة الحقيقية ليست بالاخلاق نفسها ولكن في البحث عن ماهية الاخلاق اللامتحققة شأنها شأن بقية التراث .
وتقوم طريقة حسن عجمي لاثبات رأيه الفلسفي بالاستناد على فلسفة اللغة التي يعتبرها العامل الاساسي في تحديد الاراء و المواقف المختلفة في علم الكلام والتفسير الديني والفلسفي وبما ان اي مذهب ورأي لا يعبر عن صحيح الدين والاسلام بل يعبر عن فلسفة اللغة اذن يقول الكاتب ان لا مذهب او راي متميز في الاسلام لذلك فالمذاهب كافة مقبولة ومتساوية . لذلك يبدأعجمي بجولة استقصائية واسعة لمعظم اراء العلماء والفقهاء العرب القدماء في اللغة وتأثيرها في صياغة ارائهم الفلسفية فيبدأ مع القاضي البصري عبيد الله بن الحسن التي تقول نظريته في الدلالة والمعنى بأن الاية القراّنية قد تحتوي على وجهين مختلفين لذلك يكتسب كل رأي المصداقية لذلك لا داعي للخلاف ومن الخطأ تفكير الاخر والمختلف . اما السيرافي فيقول ببطلان المنطق والفلسفة اليونانية في استعمالهما العربي معتمدا على راي يقول بأن اللغة هي التي تحدد المعرفة وبما ان المنطق والفلسفة اليونانية تكونتا بلغة اليونان فستكون فاشلة في الحالة العربية . اما الزمخشري فيعترف ان فلسفة اللغة هي مصدر المعرفة فما من مسألة فقهية او كلامية الا وكانت مشحونة بالروايات اللغوية وبراهين علوم الاعراب والنحو.
ويقول الاستاذ عجمي ان التراث الاسلامي في الكلام والفلسفة يعتمد بشكل رئيسي على مذهبين في التفسير، الاول : هو التفسير الظاهري الذي يقوم على اساس ان للقراّن معنى واحد يحدده سياق النص القراّني او ما يعبر عنه الشافعي بأن اول الكلام يبين اخره وهذه نظرية في اللغة حددت اسلوب التعامل مع القراّن الذي هو نفسه يعطي للمتلقي ألية تفسيره ومن اتباع هذا التفسير الشافعي والسيوطي الذي قال بأن القراّن محدد من قبل السياق ومن ثم اللغة اي ما تحتويه من نحو وتصريف واشتقاق . اما التفسير الثاني : وهو التفسير الباطني ويقول بأن للقراّن معاني مختلفة لان المعنى لا يقوم في القراّن بل يقوم في النفس لذلك فتفسير القراّن لا يعتمد على السياق بقدر ما يعتمد على العقل ويؤمن بهذا التفسير الاشاعرة والكندي الذي يقول في تفسير الاية القراّنية (والنجم والشجر يسجدان) بمعنى الطاعة لا معنى الركوع والسجود كما لدى الانسان لان هذا ما يقوله العقل والمنطق الذي يجب ان يحكم علاقة المؤمن بالدين .
ولكن وجد لدى بعض العلماء (الغزالي وابن العربي) ان المنهج الاحق هو الذي يجمع التفسيرين الظاهري والباطني فلا استغناء عن السياق في تحديد المعنى وكذا دور الانسان فما فائدة العقل ان كان الله قد حدد وفسر كل جوانب القران في القران نفسه فانما العقل خلق ليميز ويفرق ويقول كلمته في تفسير القران .
لنعد الى كلام" حسن عجمي" السابق فهو هنا يقترح حلا هو الانسب في تحقيق حالة الانسجام التام بين الاصولية والحداثة وانهاء الصراع و"لكن" على المستوى التنظيري المثالي البعيد عن واقع الصراع الفكري والمادي بين تيارات الثقافة العربية ، فعندما يطرح راي " عجمي" على منظر اصولي كأسامة بن لادن اوالظواهري او القرضاوي ويقول لهم ان ما يؤمنون به متغير نسبي لم يقرره الله بل قررته عقولكم وحاجاتكم وبذلك لايتميز رأيكم على اراء الاخرين بل هو سواء في درجة الصدقية فهل سيسلم هؤلاء بهذا ويغيروا استراتيجيتهم القائمة على تكفير جميع من يقف موقف الضد من ارائهم ؟ بالتأكيد كلا ، وهذا ان كان يتعلق بقيادات الحركة الاصولية فهو يتعلق بالقاعدة الجماهيرية التي لا يمكن انكارها لهذه الجماعات التي لاتؤمن حتى بالحوار مع الاخر لانه لا يستحق المحاورة . وبنفس الوقت عندما يطرح رأي" الاستاذ عجمي" على متطرفي الحداثة( ان جاز التعبير) سوف يهبون بوجه استاذنا قائلين : اتساوي بين رأي القاعدة الذي كما تقول صادق مع رأينا نحن الذي يمثل العلمية اي الصدقية الاولى ، اذن لن يؤمن برأي الكاتب سوى ثلة قليلة هي مؤمنة اصلا بهذا الرأي قبل ان يقوله" حسن عجمي" في كتابه وبالمقابل نرى ان اسلوب " عجمي " يميل الى التوفيقية المبسطة لاصل المشكل الاختلافي ؛ فمعظم رأي الكاتب علماني ولكنه يضع في نهاية كلامه " في المستقبل " وكأن هذه الخدعة ستنطلي على الاصولين الذين لا يريدون المستقبل بقدر ما يحاولون السيطرة على الماضي وتطويعيه لاجل مشاريعهم في الحاضر .
اما طريقة "حسن عجمي" في اثبات اراءه واقصد فيها فلسفة اللغة فسأتناولها من جانبين ؛ الاول: ان هذه الطريقة مبتكرة عربيا في التناول على الصعيد التراثي واكاد اقول انها عملية اكتشاف مبحث اللغة في التاريخ العربي اوالدخول الى التراث من زاوية جديدة غائبة عن سماء الثقافة العربية حتى جاء بعض من المفكرين كنصر حامد ابو زيد وعلي حرب والان حسن عجمي فأثروا ميدان الدراسات التراثية بهذا الاسلوب الجديد . ولكني اسأل لماذا غاب هذا المبحث في ثقافتنا المعاصرة مع انه كان موجودا في تراثنا بالتاكيد كما بين حسن عجمي وغيره لنا الان لماذا غاب عن بال طه حسين وصادق العظم والطيب تيزيني وغيرهم الكثير ممن تصدروا واجهة الثقافة العربية في الماضي القريب ، واني اتسائل هنا لاجيب ان ما يصنعه الغرب من عدد معرفية سرعان ما تتلاقفه الثقافة العربية ويعتبر هذا التلاقف موضة الكتابة العربية فمن الديكارتية الى الماركسية الى الابستمولوجية الى التفكيكية والان الالسنية ما زلنا مستهلكين لذلك يجدر بنا ان نسمي ما يصنعه العرب ثقافيا الان" مع تقديري لهذا الصنع" استهلاكية ثقافية كما كان الحال مع مثقفينا في الماضي لا فرق سوى ان ذاك كان قديم الغرب والان هذا جديده ، ثم هل انتهى البحث الفلسفي ولم يعد هناك ما يضاف اليه اواننا ننتظر الغرب حتى يعطينا الملائم للبحث في تراثنا ولذلك الوقت فان الالسنية هي الوسيلة الانجع لقراءة التراث وهذا المنطق كما لايخفى على القارئ منطق اعرج لن يصنع لنا ثقافة حقيقية فاعلة تستطيع ان تفرض نفسها .
اما الجانب الثاني في تناولي لاسلوب الاستاذ عجمي فتختص بمدى صدقية هذه القراءة فالقول بأن اللغة هي المحدد الرئيسي لاراء المذاهب الاسلامية المختلفة هو تجني على التراث الاسلامي الغني والمتنوع وعملية تبسيط لحقيقة الواقع الاسلامي الموسع ؛ فلنأخذ القاضي البصري عبيد الله بن الحسن فيمكن القول ان جو البصرة السياسي والاقتصادي والثقافي المنفتح نتيجة موقعها الجغرافي المفتوح وتراثها الرافديني السرياني وحاضرها الاسلامي الثري انجب عملية تسامح في التعامل مع المختلف فلجأ دعاة التسامح ومنهم القاضي ابن الحسن لعديد من الوسائل لاثبات رأيهم ومن هذه الوسائل تفسير القران الذي يعتبر اهم قواعد العرب التشريعية وبالتاكيد سوف يكون لهذا القاضي هذا الرأي في اللغة والتفسير اذن سيرت رأي ابي الحسن ظروف الواقع الاجتماعي والسياسي التي سمحت لتيار التسامح في النهوض .
وبالمقابل نرى مثلا ان الخلافة العباسية مرت بفترة ارادت فيه ان تثبت سلطتها واعتقدت ان اهم هذه الوسائل هي الوسيلة الفكرية لذلك لجأت الى ائمة الدين ومنهم الشافعي الذي بدوره عرف ان القران يجب ان يفسر تفسيرا ذاتيا بعيدا عن العقل والانسان وبذلك تكون للدولة قدرة السيطرة على العقل العربي الذي سيكون بعيدا عن ميدان القرار السياسي بأبتعاده عن ميدان القرار الفكري ، اذن خلقت الظروف السياسية الشافعي وتفسيره الباطني . يقول " عجمي " ان اختلاف مواقفنا الدينية والفلسفية ناتج عن اختلاف مواقفنا في اللغة والمعنى ولكنا نستطيع قول العكس وهو ان اختلاف مواقفنا في اللغة والمعنى ناتج عن اختلاف مواقفنا الدينية والفلسفية ، وهذا ما عبر عنه السيوطي في كتابه الاقتراح (ص45) حيث يقول " اصول اللغة محمولة على اصول الشريعة " . ومن جانب اخر فان بخث الاستاذ عجمي كان ابستمولوجيا اي اهتم بجمع الاقوال وتصنيفها معرفيا وكان اعم فائدة تناول المسألة بعدة طرق اهمها الانثربلوجية اي قراءة تطور الكلم العربي ومن ثم علاقته باللغات المجاورة كاليونانية والسريانية والعبرية ومقدار ما أثر التطور اللغوي العربي في نشوء علم الكلام والفلسفة او ان يتناول المسألة باسلوب حفري تفكيكي وبذلك تكتمل صورة البحث الذي بدأ به استاذنا عجمي .
اخيرا نبارك العمل الكبير الذي قام به " عجمي " في كتابه ونتمنى ان يواصل الاستاذ حسن عجمي بحوثه الجادة التي اغنت ميدان البحث الفلسفي الفقير عربيا .

احسان حمدي العطار باحث









" كلُّ الأشياء لُغة "
حسن عجمي