الجمعة، 26 ديسمبر 2008

السوبر حداثة




أطروحة فلسفية جديدة عن علم الأفكار الممكنة






يواصل الباحث اللبناني في فلسفة الأفكار حسن عجمي رحلته في الكتابة المفارقة، وها هو يأتينا بجديده تحت عنوان «السوبر حداثة ـ علم الأفكار الممكنة». وهذا الكتاب يدخل في سياق سلسلة تأليفية يشاء الكاتب ان يجعلها بداية لبلورة أطروحة فكرية فلسفية مع بداية الألف الثالث الميلادي. يأتي هذا الكتاب بعد عدد من المؤلفات ذات المناخ المشترك. منها «وحي اللغة ـ بيان اللامعنى» 2003 و«مقام المعرفة ـ فلسفة العقل والمعنى» 2004، و«معراج المعنى» 2001، ناهيك عن عدد المجموعات الشعرية التي يمتزج فيها الفلسفي بالوجودي وبالرؤية الرومانسية المتقلبة للحياة والذات والوجود.
يبين الكاتب في مستهل كتابه المعنى الفلسفي للحداثة، فيرى انها المذهب الذي يؤمن بوجود منهج عقلي فلسفي او علمي مقبول يوصلنا إلى المعرفة. فالحداثة هي المؤمنة بتأصيل المعارف.
فإذا كانت ما بعد الحداثة. هي الاعتقاد باستحالة تأصيل اي معرفة أكانت دينية أم علمية ـ كما يقول المفكر المغربي محمد اركون، فإن الحداثة ليست سوى الأيمان بإمكانية تأهيل المعارف.
اما ايهاب حسن فيعرف ما بعد الحداثة على انها المتصفة بمبدأ اللاحتمية المطابق او الشبيه بمبدأ اللاحتمية في ميكانيكا الكم. بالنسبة إلى ايهاب حسن يتصف مذهب ما بعد الحداثة بالذاتية، والتفكيكية والتعددية والاختلاف والعشوائية.
اما «السوبر حداثة» وهي الذي يسعى المؤلف هنا لإظهارها وتبريرها كمصطلح ومفهوم، فهي في نظره المذهب الذي يستخدم مفاهيم ومناهج ما بعد الحداثة من اجل الوصول إلى الهدف الاساسي للحداثة الا وهو المعرفة. مثال ذلك محاولات العلماء والفلاسفة في تفسير ميكانيكا الكم. فبالنسبة إلى ميكانيكا الكم، فإن مبدأ اللاحتمية او مبدأ اللامحدود هو الذي يحكم العالم. يقول هذا المبدأ انه من غير الممكن تحديد مكان الجسيم وسرعته في آن معاً.
لقد انشغل العديد من العلماء ولا يزالون منشغلين في تفسير هذا المبدأ. بعضهم يفسره على اساس ان الوعي الإنساني يحدد ما يحدث في عالم الجسيمات، بحيث تصبح غير مختلفة عن بعضها بعضاً الخ. وهنا نجد استخدام مفهوم اللاحتمية او اللامحدود. وهو مفهوم ما بعد حداثوي من اجل الوصول إلى المعرفة وهو الهدف الحداثوي. من هنا فإن «السوبر حداثة» توظف ما بعد الحداثة إلى اهداف الحداثة.
اما علم الافكار التي جعلها المؤلف عنواناً فرعياً لاطروحته الاساسية، فهو جزء لا ينفصل من «السوبر حداثة». اذ بما ان علم الافكار يدرس الافكار الممكنة وكيفية تطبيقها في ميادين مختلفة، كأن يطبق مبدأ اللامحدود على المجتمع والتاريخ. فهو بذلك يستخدم مفاهيم ما بعد الحداثة كما تفعل «السوبر حداثة».
ويسعى علم الافكار إلى التوصل إلى معرفة العوالم الممكنة التي قد تشبه عالمنا الواقعي. من هنا يتطابق هدف علم الافكار احياناً مع اهداف «السوبر حداثة» ويسعى علم الافكار ـ بحسب مسوغات المؤلف ـ إلى التوصل إلى معرفة العوالم الممكنة التي قد تشبه عالمنا الواقعي والتي تضمه.
كل هذا يرينا ان علم الافكار يستخدم ما بعد الحداثة من اجل تحقيق هدف الحداثة بشكل غير مباشر. على هذا الاساس يشكل علم الافكار مبدأ اساسياً في عمارة «السوبر حداثة». وهكذا سنجد ان معظم الابحاث في هذا الكتاب، يفترضها المؤلف على انها حلقات تندرج في السياق الاجمالي لاطروحته.
لا يريد المؤلف ـ على ما بين وتبين لنا ـ الارتحال إلى ضرب من «الفانتازيا» الفكرية او المصطلحية لكي يقول شيئاً جديداً في عالم فلسفة الافكار. ففي رأيه، ان علم الافكار الذي تقرره «السوبر حداثة» لا يستهدف معرفة العالم الواقعي بشكل مباشر. بل هو يدرس حقائق العوالم الممكنة.
ولذلك فإن علماً كهذا، يختلف عن الحداثة التي تعنى بدراسة الواقع من اجل الحصول على معرفة الواقع. كذلك فإن علم الأفكار لا يسعى إلى نقد المعرفة ورفضها كما تفعل ما بعد الحداثة، لأن علم الأفكار يسعى إلى الحصول على المعارف من خلال العوالم الممكنة. فهو بذلك يختلف عن كل من الحداثة، وما بعد الحداثة ليشكل مذهباً يغادر مفهومي الحداثة وما بعدها. وعلى هذا النحو فإن علم الافكار الذي تقوم عليه اصلاً نظرية «السوبر حداثة» هو العلم الذي يدرس الافكار الممكنة.
اي ان موضوعه هو دراسة المذاهب الفكرية كافة (الفلسفية والعلمية والاجتماعية والادبية الخ) وذلك بشرط الا تكون المذاهب المشار اليها قد نشأت بعد. اي ان الموضوعات التي سيدرسها علم الافكار هي التي سيطرحها الراهن والمستقبل في ظل التحولات الهائلة التي يعيشها عالم ما بعد القرن العشرين.
ان الهدف الاول والاساسي الذي يستهله مثل هذا العلم هو بناء المذاهب والافكار الجديدة ومحاولة الدفاع عنها والتماس فضائلها (ونواقصها اذا امكن) شرط ألا يعتبرها المؤلف هي حقاً مذاهبه وافكاره. بمعنى آخر فإن مثل هذه المحاولة هي التوصل إلى تحديد مجموعة الافكار والمذاهب الفكرية التي من الممكن ان توجد! والتي من الممكن ان يفكر فيها فرد ما في عالم ما، او التي من الممكن ان تكون صادقة في عالم ما.
اما الفائدة من وراء البحث والوظيفة التي سيؤديها ضمن دائرة النقاش العالمي، فهي تقوم ـ بحسب المؤلف ـ على محاولة اعطاء العالم حجة معرفية لكي يكتب وينشر ما فكر به، على الرغم من انه غير مقتنع كلياً بما كتبه او فكر فيه. ذلك لأن العلم يدرس الافكار الممكنة وليس بالضرورة ان يعتنقها، من هنا لا يحتاج العالم في هذه الحال إلى قضاء المزيد من الوقت لكي تحدث التجارب والخبرات الداعمة لفكرته هذه او تلك.
ففي الآن ذاته، عندما نحدد الافكار الممكنة نكون قد ساهمنا في البحث الفلسفي والعلمي، فإذا ما وجدنا امامنا معظم الأفكار التي من الممكن التفكير فيها، قد يختار العالم مذهباً منها ويطوره، ما يساهم في بناء المعرفة والبحث العلمي. هذه بعض الحجج إلى جانب حجج اخرى تتصف بالصفة البراغماتية، والتي تؤسس إلى هذا العلم الجديد. في حين ان الحجة الأساسية الداعمة لهذا العلم هي انه يتجنب المذهب الشكي. فحتى لو كان الشك صادقاً، فإننا سنبقى غير قادرين بحق على دراسة ما يمكن ان يكون صادقاً.
يلاحظ المؤلف ان من حجيات هذا العلم امتلاكه للقدرة التفسيرية. فهو يفترض انه قادر على تفسير بعض الظواهر.
اي القدرة على ان يفسر ويبين ويلاحظ الكيفية السببية لنشوء بعض الافكار والمذاهب في الماضي. كما لديه القدرة المفترضة على التنبؤ بالافكار والمذاهب التي قد تنشأ في المستقبل.
واذا كان من غير الممكن والمنطقي البرهنة على هذا الادعاء الفلسفي الا من خلال تقديم امثلة وتجارب عيانية، فإن المؤلف يلتجيء في هذه الحال إلى اختيار فكرة ما يسميه بـ «اللامحدود» (indeteminacy) كميدان لعمله.
ففي هذا الخصوص، يرى ان هذه الفكرة اوجدت اصلاً في التراث الفكري الغربي. ويضيف: انها تمثلت في تنظيرات ايمانويل كانط حول مقولتي العقل والادراك. بينما تمثلت عند هيغل على الوجود.
فلا عجب اذن، ان تنتقل هذه الفكرة التي شغلت التراث الفلسفي الغربي أمداً طويلاً إلى العلم. وبالفعل فإن هذه الفكرة قد تشخصت في ميكانيكا الكم التي تقول انه من غير المحدد سرعة الجسيم ومكانه. وذلك اعتماداً على انتشار فكرة اللامحدود، ومن منطلق علم الأفكار كونه يدرس الأفكار التي من الممكن توليدها.
حيث نستطيع ان نتنبأ بأن فكرة اللامحدد سوف تطبق في علم الاقتصاد. وبالفعل ايضاً، فلقد طبقت هذه الفكرة مؤخراً ضمن هذا العلم. وهذا دليل على صدق هذا التنبؤ. وهذا دليل ايضاً على صدق علم الافكار وقدرته التفسيرية. فلقد فسر ظاهرة معينة بكثير من الاقتدار، وهي نشوء مذهب جديد في علم الاقتصاد يدعى دراسة الاقتصاد وتحولاته وثباته وصعوده وهبوطه من خلال ما يسمى بـ «فكرة اللامحدد».
انطلاقاً من المسوغات النظرية والفكرية التي يسوقها المؤلف على امتداد الكتاب، فإنه يصل إلى نتيجة مؤداها التالي: ان «السوبر حداثة» سوف تسعى إلى بناء نظريات علمية ناجحة وصادقة في عوالم ممكنة. لذلك قالت هذه الاطروحة «ان العلم يعبر عن الحقائق كما هي في العوالم الممكنة التي قد يكون من ضمنها عالمنا الواقعي.
وبينما تعتبر الحداثة ان العلم يعبر عن الحقيقة في عالمنا الواقعي، تدعى ما بعد الحداثة ان العلم لا يعبر عن الحقيقة بل هو مجرد أداة نافعة في تفسير الظواهر والتنبؤ بها. غير ان «السوبر حداثة» تتخطى المذهبين السابقين حين تقول ان العلم يعبر عن الحقائق القائمة في الاكوان الممكنة. ومن منطلق ان المشاكل الفلسفية هي مشاكل حقيقية ويتم حلها من خلال ايضاح معاني المفاهيم او كيفية استعمالها نتمكن من الاجابة على السؤالين التاليين:
لماذا وكيف تنجح الفيزياء في التعبير عن العالم من خلال معادلات رياضية؟
لماذا ينجح الإدراك البشري في إبقائنا على قيد الحياة او ايصالنا إلى المعرفة؟
ان النظريات الفيزيائية ناجمة في التعبير عن العالم من خلال الرياضات ـ كما يقول المؤلف ـ ذلك لأن «النجاح لا معنى له خارج ميدان الرياضيات.
فالرياضيات هي المعيار في الحكم على النجاح او الفشل. وادراكنا للكون ناجح لأنه لا معنى للنجاح خارج ادراكنا، فالادراك البشري هو المعيار في الحكم على ما هو ناجح وما هو فاشل.
ويربط المؤلف بين الممكن والعقلاني باعتبارهما امراً واحداً، ويناقش ما رأت اليه الحداثة في هذا الصدد. فإذا كانت الحداثة ـ على ما يبين ـ تتميز بقبول وجود اسس وماهيات. فإن ما بعد الحداثة ترفض وجودها. ومن المفترض ان تكون الاسس هي المباديء التي تبنى عليها المعرفة بأشكالها كافة.
وان تكون الماهيات هي التي تحدد الأشياء والحقائق. لكن من الممكن تخطي هذين الاتجاهين السابقين بقبول «السوبر حداثة» التي هي دراسة للأسس والماهيات الممكنة. بل هي تطالب بخلق الأسس والماهيات من خلال دراستها، لأنها لا تعنى بوجودها او عدم وجودها. بل بدراستها كممكنات.
واذا كانت الحداثة تملك مضموناً محدداً، وما بعد الحداثة تملك مضموناً نقيضاً للحداثة. فإن السوبر حداثة لا تملك مضموناً محدداً لأنها تدرس الممكنات (بل هي تكشف لتولد الممكنات) التي تحتوي مضامين مختلفة. وبذلك فإن مضمون «السوبر حداثة» يختلف مع اختلاف الممكنات. واذا كانت ما بعد الحداثة تتميز بالكشف عن نهايات الاشياء كنهاية الايديولوجيا والفن والطبقة والتاريخ، فإن السوبر حداثة تركز على بدايات الاشياء لانها تدرس الممكنات مما قد يدفعها نحو التحقق.
العقلانية عند المؤلف هي حقيقة الممكنات وعلم الممكنات. وتقول «السوبر حداثة» في هذا الشأن ان العقلانية تقوم على التالي:
اي فرد هو عقلاني، اذا عرف ان معتقداته تخرق مباديء المنطق فإنها تقع في التناقض والدور. وبهذا يتخلى عما يعتقد. وفقط في حال عدم تخليه عنها يصبح غير عقلاني.
من فضائل هذه النظرية (السوبر حداثة) كما يقول المؤلف انها مفارقة: فمن جهة تقر بأنه من الممكن للفرد ان يخرق مباديء المنطق ويبقى عقلانياً في حال انه لا يعرف انه قد ناقض المنطق، ومن جهة اخرى يعترف بأن على الفرد ان يراعي المنطق، والا اصبح غير عقلاني في حال انه عرف خرقه للمنطق وقبل به.
هذه محاولة جريئة في عالم البحث الفلسفي لكنها جرأة تنطوي على مخاطرة.. فالسؤال حول ماهية هذه الأطروحة يبقى ماثلاً مادام المؤلف لم يفعل في هذا الكتاب سوى وضع مقدمة لأطروحته.


محمود حيدر - البيان

الرابط :http://www.alimbaratur.com/All_Pages/Tawaheen_Stuff/Tawaheen_59.htm