الاثنين، 5 يناير 2009

( اللايقين ) للفيزيائي ديفيد ليندلي







(اللايقين) للفيزيائي ديفيد ليندلي:
عالمان ممكنان بدلاً من عالم واحد




حسن عجمي

عادة ما نظن أن العلم يقدم اليقين. لكن هذا غير صحيح. فالعلم غير يقيني ولذا تتنوع النظريات العلمية وتختلف. فمثلا، تعتبر النظرية النسبية لاينشتاين ان الكون حتمي بينما تعتبر ميكانيكا الكمّ ان الكون غير حتمي. لكن ليس العلم وحده غير يقيني، بل الكون والوجود كذلك ايضا كما تؤكد ميكانيكا الكمّ. ينشأ من هذا الانقلاب الفكري السؤال التالي: هل الحقيقة ايضا غير يقينية بحد ذاتها؟ شارك الكثير من العلماء في بدايات القرن العشرين في إنتاج نظرية ميكانيكا الكمّ حيث تصارعت الافكار الى ان رست النظرية على شكلها النهائي. لكن هذا لم يمنع من استمرارية تدفق التفاسير والتأويلات العديدة والمختلفة لها. اينشتاين وبوهر وهيزنبرغ من الفيزيائيين المشاركين في تصوّر ميكانيكا الكمّ كفكرة ممكنة. لكن بعد ان ظهرت بمضمونها اللايقيني واللاحتمي رفضها اينشتاين قائلا إن الله لا يلعب بالنرد. وفي آخر لقاء مع هيزنبرغ قال له اينشتاين: «نظريتك منسجمة لكني لا أحبها». وبعد الجدل الطويل بين العلماء حول كيفية صياغة ميكانيكا الكمّ سيطر مبدأ هيزنبرغ عليها ألا وهو مبدأ اللايقين وبدأت تعرف ميكانيكا الكمّ، من غير المحدد ما اذا كان الجسيم (كالالكترون) جسيما ام موجة، ولذا يتصرف الجسيم ذاته على انه جسيم وعلى انه موجة في الوقت نفسه. وهذا مضمون مبدأ اللايقين. لكن اذا نظر المشاهد الى الجسيم سوف يدركه إما على انه جسيم وإما على انه موجة. وبذلك تعتبر ميكانيكا الكمّ ان المشاهد او المشاهدة تشارك في صناعة الكون والوجود. فالوعي يشكل العالم على نقيض مما كانت تظن الفيزياء قبل ميكانيكا الكمّ. وهذا ما صدم العديد من العلماء والفلاسفة وجعلهم يبحثون الى يومنا هذا عن التفسير الحقيقي لميكانيكا الكمّ (Lindley: Uncertainty. .2007 Doubleday David). أوضح الفيزيائي ديفيد ليندلي قصة نشوء ميكانيكا الكمّ ومضمونها ومن ثم استخلص ان نتيجتها التي لا مفر منها هي ان الحقيقة قد أصبحت غير مطلقة، فبالنسبة إليها الحقيقة فعلا نسبية. فبما انه من غير المحدد سرعة الجسيم وكأنه في الوقت ذاته لان مبدأ اللايقين يحكم عالم ما دون الذرة، اذاً الحقيقة نسبية وليست مطلقة. لو انها مطلقة لكان من المحدد ما هي سرعة الجسيم وما هو مكانه. بالنسبة الى ميكانيكا الكمّ، من غير المحدد ما اذا كان قط شرودنغر حياً أم ميتاً، ولذا حقيقة هذا القط غير مطلقة، فلو انها مطلقة لكان هذا القط إما حياً وإما ميتاً. لكن من وجهة نظر هذا المشاهد للقط في هذا العالم الممكن قط شرودنغر حي، أما من وجهة نظر مشاهد آخر للقط نفسه في عالم ممكن آخر فهذا القط ذاته ميت. هكذا الحقيقة أمست نسبية ومختلفة من مشاهد الى آخر من دون ان تكون مشاهدة محددة هي المشاهدة الاصدق بل كل المشاهدات الممكنة صادقة بمعنى ما وان تعارضت. وعلى هذا الاساس ايضا تأسس تفسير ميكانيكا الكمّ القائل بأن ثمة عالمين ممكنين بدلا من عالم واحد، عالم ممكن حيث قط شرودنغر حي وعالم ممكن آخر حيث القط نفسه ميت. وما زالت ميكانيكا الكمّ تدعو العلماء الى تفسيرها. هذا لأنها تجعل اللايقيني أو اللاحتمي أو اللامحدد أساس الوجود. فالكون حدث كمي quantum لا يقيني نشأ من العدم من جراء التقلبات الكمية التي مصدرها مبدأ اللايقين الذي يسيطر على العدم كما يسيطر على الوجود. هكذا يرسم لنا ليندلي معالم الانقلاب المخيف في العلم حيث انتقلت الفيزياء من عالم محكوم بقوانين دقيقة وصارمة الى عالم محكوم بقانون اللايقين (المرجع السابق). اللاحتمي بعد أن سيطر العلم الحتمي والدقيق على الفكر البشري وخاصة مع نظرية نيوتن والنظرية النسبية لاينشتاين، انقلب العلم على نفسه وأصبح علما يدرس اللاحتمي واللادقيق كما تفعل ميكانيكا الكمّ. هكذا تغيرت ميزة العلم. فبعدما كانت ميزة العلم كامنة في اعتبار الكون محددا في كل تفاصيله وأدقها، أمست ميزة العلم قائمة في اعتبار الكون غير محدد. هذا مثل على تغير الميزة. بالنسبة الى فلسفة الميزة أي الميزياء، الاشياء تملك ميزات ولا تملك ماهيات، فلكل شيء ميزة أو ميزات تميزه عن الاشياء الاخرى وعلى ضوئها يتكوّن. والفرق شاسع بين الميزة والماهية. فالميزة متغيرة وقابلة للتطور، أما الماهية فغير متغيرة كونها ماهية. لكن اذا كان للعلم ماهية، وبما ان الماهية ثابتة، اذاً لاستحال ان يتغير العلم. لكنه فعلا تغير كما رأينا، فقد تغير من اعتبار الكون حتميا الى اعتباره غير حتمي. من هنا للعلم ميزة وليس له ماهية تماما كما تؤكد الميزياء. بالنسبة الى الميزياء، الميزة الاساسية للعلم هي ان العلم عملية تصحيح مستمرة، ولذا تتنوع النظريات العلمية وتختلف كما تختلف نظرية النسبية لاينشتاين عن نظرية ميكانيكا الكمّ، ولذا ايضا تغير تصوّر العلم من اعتبار الكون محددا الى اعتباره غير محدد. ويبقى ان نسأل: ما هي ميزة الحقيقة؟ هل هي مطلقة كما تقول نظرية النسبية لاينشتاين ام انها نسبية كما تقول ميكانيكا الكمّ؟ تنقسم فلسفة الحقيقة الى مذهبين أساسيين: المذهب الواقعي realism والمذهب اللاواقعي antirealism. المذهب الواقعي يحلل الحقيقة من خلال الواقع فيقول ان الحقيقة هي ما يطابق الواقع. لكن مشكلة هذا المذهب كامنة في انه اذا كانت الحقيقة هي فقط ما يطابق الواقع، وبذلك لا ترتبط الحقيقة بعقولنا، اذاً من الممكن ان لا يدركها العقل وبذلك يسود المذهب الشكي. اما المذهب اللاواقعي فلا يحلل الحقيقة من خلال الواقع بل من خلال ارتباطها بنا. فمثلا يقول ان الحقيقة هي ما يفيدنا كما يؤكد الموقف البراغماتي أو يقول ان الحقيقة هي ما ينسجم مع معتقداتنا. لكن المذهب اللاواقعي يواجه المشكلة التالية: بما انه لا يعتبر ان الحقيقة هي المطابقة للواقع بل يجعل الحقيقة معتمدة على عقولنا، وبما ان عقولنا متعارضة، اذاً تغدو الحقيقة ذاتها متعارضة مع نفسها، وهذا مستحيل. من جهة اخرى، السوبر مستقبلية تتجنب المشكلتين السابقتين فتكتسب بذلك مقبوليتها. بالنسبة الى السوبر مستقبلية، التاريخ يبدأ من المستقبل، ولذا لا بد من تحليل المفاهيم من خلال المستقبل. على هذا الاساس تحلل السوبر مستقبلية الحقيقة على النحو التالي: الحقيقة قرار علمي في المستقبل. هكذا يتم تحليل الحقيقة من خلال المستقبل. لهذا التحليل فضائل عدة تجعله تحليلا مقبولا. اولا، بما ان الحقيقة قرار علمي في المستقبل، والقرار مرتبط بنا، اذاً من الممكن إدراك الحقيقة. هذه هي الفضيلة الاولى لهذا التحليل لأنه يجعل معرفة الحقيقة ممكنة فيتجنب مشكلة المذهب الواقعي. ثانيا، بما ان الحقيقة قرار علمي في المستقبل، ومن المفترض ان العلم يطابق الواقع، اذاً الحقيقة تطابق الواقع. هكذا يتمكن هذا التحليل من جعل الحقيقة مطابقة للواقع وبذلك يكتسب فضيلته الثانية ويتجنب مشكلة المذهب اللاواقعي من خلال عدم جعل الحقيقة معتمدة فقط على عقولنا فلا تغدو بذلك الحقيقة متعارضة مع ذاتها. ثالثا، بما ان الحقيقة قرار علمي في المستقبل، والمستقبل لم يتحقق كليا في الحاضر والماضي، اذاً لا بد من البحــث الدائم عن الحقيقة. هكذا تضمن السوبر مستقبلية استمرارية البحث العلمي والمعرفي. واستمرارية البحث فضيلة، وبذلك يكتسب هذا التحليل للحقيقة فضيلته الثالثة. من جهة اخرى، تؤدي السوبر مستقبلية الى سوبر حداثة التي تقول ان اللامحدد يحكم العالم كله وليس عالم ما دون الذرة فقط. بالنسبة الى السوبر حداثة، من غير المحدد ما هو الكون ومما يتكوّن، لكن رغم ذلك من الممكن معرفة الكون لان من خلال لامحدديته نتمكن من تفسيره. على هذا الاساس تعتبر السوبر حداثة ان الحقيقة ليست مطلقة وليست نسبية، بل نصفها مطلق ونصفها الآخر نسبي. أي ان السوبر حداثة تقول انه من غير المحدد ما اذا كانت الحقيقة مطلقة ام نسبية. الآن، بما انه بالنسبة الى السوبر مستقبلية، الحقيقة قرار علمي في المستقبل، والقرار نسبي كونه قراراً إنسانياً، اذاً الحقيقة نسبية. وبما انه بالنسبة الى السوبر مستقبلية، الحقيقة قرار علمي في المستقبل، والعلم غير نسبي كونه علما، اذاً الحقيقة غير نسبية. بذلك الحقيقة نسبية وغير نسبية. لكن هذا مستحيل لتناقضه. اذاً من غير المحدد ما اذا كانت الحقيقة نسبية ام غير نسبية تماما كما تؤكد السوبر حداثة. هكذا موقف السوبر مستقبلية يتضمن موقف السوبر حداثة فيشكلان معا حقلاً معرفياً واحداً. أخيراً، يكاد الجدل لا ينتهي بين الموقف الفكري الذي يعتبر ان الحقيقة مطلقة والموقف الذي يعتبر ان الحقيقة نسبية. وبينما تؤكد الفيزياء الكلاسيكية على ان الحقيقة مطلقة، تقول فيزياء ميكانيكا الكمّ ان الحقيقة غير مطلقة بل نسبية. لكن من الممكن اتخــاذ موقف مختلف الا وهو انه من غير المحدد ما اذا كانت الحقيقة مطلقة ام نسبية.



الرابط : http://www.assafir.com/WeeklyArticle.aspx?EditionId=862&WeeklyArticleId=35023&ChannelId=4648