الجمعة، 23 يناير 2009

هل الكون والعقل مجرد كومبيوتر؟

حسن عجمي

الصراع لا ينتهي بين الفلسفة المادية التي تعتبر ان الكون والعقل مجرد كومبيوتر والفلسفة اللامادية التي تقول ان الكون والعقل مختلفان عن أي آلة. نرصد هذا الموقف المادي المتمثل بنظريتي عالم الهندسة الكومبيوترية الكمية سيث لويد، والسيكولوجي دانيال دينت، والموقف المنافس لهما المتمثل بعالم الرياضيات روجر بنروز والفيلسوف روبرتو انغر. أما غياب الحكم النهائي بين المواقف المتضاربة فيدفعنا نحو القول بلا محدّدية الكون والعقل.يقدم عالم الهندسة الكمية سميث لويد تصوراً فريداً عن الكون فيعتبر ان الكون كله مجرد كومبيوتر يقوم بحسابات رياضية. بالنسبة اليه، كل نظام فيزيائي عبارة عن عملية حساب للمعلومات. فأي نظام فيزيائي يحتوي على معلومات ويتكوّن منها ومن عملية حسابها. أما تغير اي نظام فيزيائي فهو مجرد تحوّل في عملية حساب المعلومات. من هنا من الممكن تصور الأنظمة الفيزيائية كافة على انها حسابية كالكومبيوتر تماما، ولذا يصف لويد الكون على انه كومبيوتر ويفسره على ضوء انه يتشكل من حسابات للمعلومات كالتي يتضمنها الكومبيوتر ويتشكل منها. بالنسبة الى لويد، كل الأشياء ومن بينها الذرات والجسيمات تحتوي على معلومات، وأي تفاعل بينها ليس سوى عملية تحويل للمعلومات. فالكون كومبيوتر كمي quantum computer. لكن ماذا يحسب الكون؟ يجيب ان الكون يحسب ذاته اي تصرفه بالذات Programming the Universe 2007. Seth Lloyd. Vintage Books).يشرح لنا لويد اختلاف الكومبيوتر الكمي عن كومبيوتراتنا العادية. فالكومبيوتر الكمي يبنى على ضوء ميكانيكا الكم، وبذلك يتخذ صفات النظام الكمي. بالنسبة الى ميكانيكا الكم، الموجات تتصرف كالجسيمات، والجسيمات تتصرف كالموجات، والشيء نفسه قد يوجد في مكانين مختلفين في الوقت ذاته. على هذا الأساس، الكومبيوتر الكمي ينجح في القيام بملايين من الحسابات معاً. ففي هذا الكومبيوتر كل ذرة والكترون وفوتون يشارك في تسجيل المعلومات وحسابها. من هنا يكتسب الكومبيوتر الكمي قدرة هائلة على القيام بحساباته بدقة وسرعة لا نعهدها في كومبيوتراتنا التقليدية رغم اننا اليوم لم نتمكن من بناء هذا الكومبيوتر الكمي المتطور الى هذا الحد. وبما ان الكون بكل اجزائه وطاقاته ومواده يمتلك تلك القدرة الهائلة (على تحقيق حساباته) التي يمتلكها الكومبيوتر الكمي المتطور، اذن يستنتج لويد انه لا يوجد فرق بين الكومبيوتر الكمي والكون. وبذلك الكون ليس سوى كومبيوتر كمي (المرجع السابق).لكن مما يتكون هذا الكومبيوتر الكوني؟ يجيب لويد بأن قوانين ميكانيكا الكم تشكل الكومبيوتر الكوني، والتقلبات الكمية هي التي تجعله يعمل. بالنسبة الى ميكانيكا الكم، مبدأ اللايقين يحكم عالم ما دون الذرة؛ فمن غير المحدد مكان الجسيم وسرعته في آن معاً. فالكون عرضة لتقلبات كمية تجعله غير محدد في ماهيته وصفاته. وهذه التقلبات الكمية تزود الكون بمعلومات جديدة باستمرار وكأنها الأفراد والعلماء الذين يتحكمون بعمل الكومبيوتر. من هذا المنطلق، يفسر لويد التعقيد في الكون على النحو التالي: في النظام الكومبيوتري ثمة برامج بسيطة مع معلومات كثيرة تؤدي الى نشوء نتائج معقدة. وبما ان الكون كومبيوتر كمي حيث برامجه هي قوانين ميكانيكا الكم ومعلوماته متدفقة من التقلبات الكمية، اذن من الطبيعي ان ينتج الكون بوصفه كومبيوترا كميا التعقيدات الموجودة فيه. هكذا يفسر لويد وجود التعقيد الكوني على ضوء نموذجه العلمي القائل بأن الكون مجرد كومبيوتر. وبذلك يكتب نموذجه قدرته التفسيرية. وهذا ما يطلبه اي نموذج علمي. من هنا تملك النظرية القائلة بأن الكون كومبيوتر فضائل معرفية منها تفسير نشوء التعقيدات في الكون (المرجع السابق).من جهة أخرى، كما من الممكن دراسة الكون على انه كومبيوتر من الممكن دراسة العقل على انه كذلك ايضا. من هنا يدعونا الفلاسفة الي تصور عالمة تدعى ماري. يضيفون قائلين: تخيلوا معنا ان ماري عاشت معظم عمرها في مختبر علمي حيث كل شيء من حولها اسود وأبيض فقط فلم تتعرض الى اي لون ولم تر لوناً. رغم ذلك ماري عالمة فيزيائية بعلم الألوان؛ فهي قد درست مما تتكون الألوان وكيف تتكون. لكن تنتهي قصة ماري في انها تخرج اخيرا من مختبرها لتواجه العالم الواقعي بكل الوانه، فترى الألوان المختلفة التي نراها. هنا يبدأ الصراع بين الفلاسفة. فأصحاب المذهب المادي او الوظائفي يقولون ان ماري هذه لن تندهش برؤية الألوان ولن تكتسب تجارب جديدة تعلمها ما هي الألوان وكيف من الممكن الاحساس او الشعور بها. أما الفلاسفة الذين يرفضون اختزال العقل الى مجموعة حالات دماغية أو مجموعة وظائف وميول سلوكية فيقولون ان ماري هذه سوف تندهش برؤية الألوان وستكتسب تجارب جديدة تعلمها المزيد عن الألوان وكيف نحس او نشعر بها (Daniel Dennett: Consciousness Explained.1991. Penguin Books).مثل ذلك ان الفيلسوف والسيكولوجي دانيال دينت يعتبر ان ماري لن تكتسب معرفة اضافية عندما ترى الألوان لانها تعرف كل ما يجب معرفته عن فيزياء وكيمياء الألوان. وبذلك يعبر دينت عن مذهبه المادي الوظائفي في العقل. بالنسبة اليه، بما ان العقل مجرد دماغ ووظائف وميول سلوكية، اذن بمجرد ان تملك ماري المعرفة العلمية بالألوان فهي حينها تعلم ايضا كيفية الشعور والاحساس بالألوان. من هنا يؤكد دينت ان ماري لا تكتسب معرفة اضافية بعد خروجها من مختبرها الخالي من الألوان، بل لقد تمكنت من استنتاج كيف نشعر نحن بالألوان ونحس بها من خلال معارفها العلمية بعلم الألوان. ويتهم دينت المعارضين بأنهم يقعون في المصادرة على المطلوب حين يقولون ان ماري ستكتسب معرفة اضافية بعد خروجها من مختبرها. فبما انه قدم برهاناً على ان ماري لا تكتسب معرفة جديدة بسبب علمها الحق بالألوان، اذن الاصرار على ان ماري ستكتسب معرفة اضافية برؤيتها الألوان هو مجرد مصادرة على المطلوب لان المطلوب هو البرهنة على انها ستكتسب معرفة جديدة بينما المعارضون يسلمون بذلك بدلاً من ان يبرهنوا عليه (المرجع السابق). هنا يظهر العقل على أنه مجرد كمبيوتر يقوم بحساب المعلومات؛ فعلى ضوء قوانين ومعلومات معينة لديه تنشأ بشكل آلي كل وظائف العقل وصفاته من أحاسيس ومشاعر. فاذا كان العقل مجموعة وظائف، وبما أن الكومبيوتر مجرد وظائفه، اذن العقل ليس سوى كمبيوتر. هذه هي النتيجة الأساسية للمذهب المادي الوظائفي في العقل.لقد رأينا نجاح تفسير الكون والعقل على انهما مجرد كمبيوتر؛ فهما كمبيوتر لأنهما يتشكلان من عمليات حسابية. لكن عالم الرياضيات روجر بنروز يقدم حجة قوية ضد هذا الموقف. يعتمد بنروز في حجته على نظرية عالم المنطق كارت غودل Kurt Godel التي تقول إن اي نظرية رياضية تحتوي على عبارات من غير الممكن البرهنة على صدقها رغم انها صادقة. وبذلك تلك العبارات الرياضية غير حسابية، أي من غير الممكن أن تكون جزءاً من عملية حسابية. من هنا يستنتج بنروز ان الادراك الرياضي ليس آلياً ولا حسابياً، ولذلك من الخطأ تصور العقل على انه مجرد كمبيوتر يُجري عمليات حسابية Roger Penrose: The Emperor's New Mind, 1999,Oxford)(.University Press من المنطلق ذاته، من الخطأ اعتبار الكون مجرد كمبيوتر او مجموعات من عمليات حسابية آلية لأنه ثمة عبارات صادقة تشير إلى حقائق رياضية من غير الممكن ان تكون جزءاً من عمليات حسابية كمبيوترية.اما الفيلسوف روبرتو أنغر فيعتبر انه من الخطأ تحليل العقل على انه كمبيوتر لأسباب عدة هي: أولاً، التفكير لا يعمل فقط على أساس التسليم بمسلمات او معلومات معينة والقيام بالاستنتاج منها كما يفعل الكومبيوتر، بل العقل حر في الانتقال من مسلمات إلى أخرى ومن استنتاجات إلى أخرى. ثانياً، التفكير لا يعتمد على القواعد المتشابهة لتحديد المعاني المتشابهة، بل يستخدم القواعد اللغوية نفسها ليُظهر معاني مختلفة ويظهر معاني متشابهة من خلال قواعد لغوية مختلفة على نقيض مما يفعل الكمبيوتر. ثالثاً، العقل ليس قياسياً. لا يُحصر عمل العقل في جزء من الدماغ دون جزء آخر منه، وعمل العقل غير مُغلق في سجون مجموعة معينة من القوانين او مبادىء التفكير. فمثلاً، يستنتج العقل نتائج جديدة تعارض نتائجه القديمة، ولذا العقل غير قياسي على نقيض الكمبيوتر. بالنسبة إلى أنغر، يفكر العقل ويكتشف ما قد لا نستطيع البرهنة عليه وما قد لا نفهمه أصلاً. وهذا ما لا يفعله الكمبيوتر. لذا العقل مختلف عن الكمبيوتر. باختصار، العقل يفاجئنا ويدهشنا بأفكاره ونتائجه، وهذا ما يفتقر اليه الكمبيوتر لأنه محكوم بمبادىء وقوانين:Roberto Unger: The Self Awakened: Pragmatism)(Unbound. 2007. Havard University Press . وقد يصدق هذا الموقف على الكون ككل لأن الكون ايضاً يدهشنا بما يملك ويُنتج.الآن، يبدو أن لدينا أدلة قوية على أن الكون والعقل مجرد كمبيوتر، كما لدينا أدلة قوية على أن الكون والعقل ليسا مجرد كمبيوتر. من هنا، من غير المحدد ما إذا كان الكون والعقل مجرد كمبيوتر أم لا. هذا هو موقف السوبر حداثة التي بالنسبة إليها اللامحدد يحكم العالم. تعتبر السوبر حداثة أنه من غير المحدد ما هو الكون وما هو العقل، ولذا تنجح النظريات المختلفة في وصف الكون والعقل وتفسيرهما رغم التعارض بينهما. فمثلاً، بما أنه من غير المحدد ما اذا كان الكون والعقل مجرد كمبيوتر، أم لا، اذن من الطبيعي أن ينجح إلى حد ما تفسيرنا لهما على أنهما كمبيوتر كما أوضح لويد ودينت، وأن يفشل الى حد ما هذا التفسير ذاته كما أوضح بنروز وأنغر وتنجح نظرات أخرى في الكون والعقل.هكذا تتمكن السوبر حداثة من تفسير نجاح المواقف والنظريات المتعارضة في وصف الكون والعقل، وبذلك تكتسب السوبر حداثة قدرتها التفسيرية فمقبوليتها.