الجمعة، 23 يناير 2009

من الديمقراطية والأخلاق إلى الدولة والفرد في "السوبر حداثة" لحسن عجمي



من الديمقراطية والأخلاق إلى الدولة والفرد في "السوبر حداثة" لحسن عجمي *


لا وجود لدولة عربية.... السوبر حداثة تخلق التعدد والمعايير.... الدولة القوية تصنع الآداب الراقية





كتاب "السوبر حداثة" كان بحق دليلا شاملا يتخذ من فرضية اللامحدود منهجا لإعادة النظر في مسائل الديمقراطية واللبرالية وإعادة توزيع الثروة فما بعد الليبرالية ومفهوما الحرية إذ يربط بين دخل الفرد والحفاظ على السلم والنظام والقوانين والحقوق اذيقول "بكلام آخر لابد من إعادة توزيع الثروة لكي نحافظ على حقوق الآخرين في حرية التصرف بما يملكون وفي حقهم بما يملكون. فلو تركنا المجتمعات عرضة للحروب والانهيارات نكون حينئذ قد اعتدينا على حقوق الآخرين في الحرية والملكية. فمع الحروب وانهيار الأنظمة بفقد المواطن حريته وحقه فيما يملك" (ص156).
في هذا الفصل يتطرق حسن عجمي إلى ما يسمى بـ "ما بعد الليبرالية" والحرية في مفهوميها السلبي والإيجابي والحرية المتعالية المتمثلة في حرية الفرد في تحقيق إنسانيته. أما تحقيق الإنسانية فيكمن في أفعال مختلفة كمساعدة الآخرين على تحقيق أهدافهم أو في إغاثة المحتاجين. كما تتمثل الإنسانية في المشاركة بكتابة الآداب المختلفة" (ص158).
التعددية بين الحفاظ والخلق
إن كان معيار الديمقراطية التعدد فإن معيار التعدد نفسه يحتاج عند حسن عجمي إلى ديمقراطية تحميه وهي "ديمقراطية ما بعد الحداثة وديمقراطية أخرى تخلقه وهي ديمقراطية السوبر حداثة" يقول حسن عجمي "إذا كانت ديمقراطية ما بعد الحداثة تتضمن الحفاظ على التعددية في المجتمع فإن ديمقراطية السوبر حداثة تهدف إلى خلق التعددية" (ص162)خلق التعددية يحول المجتمع اللاتعددي إلى تعددي "كأن يحول المجتمع المسيحي أو المسلم إلى خليط من جماعات من الطوائف والأديان والأعراق والألوان كافة فبهذا الخليط فقط من الممكن أن يتطور المجتمع وتتطور العلوم" (ص162)وينسحب هذا المبدأ على خلق المعايير"إذا كانت ديمقراطية ما بعد الحداثة ترفض وجود معيار(معرفي أو سلوكي) واحد صادق فإن ديمقراطية "السوبر الحداثة" تخلق معايير مختلفة ومتعددة. تكمن ديمقراطية "السوبر حداثة" في خلقها التنوع والتعدد والمعايير المختلفة للسلوك والتفكير كما تكمن في خلق هويات مختلفة وتحويل هوية الفرد إلى هويات كي ينتهي في اكتسابه الهوية الإنسانية لاغير" (ص162).
المثقف والسوبر حداثة
قد يتوهم القارئ أن حسن عجمي يسهب في التذكير بآراء غيره من عيون الفكر العربي المعاصر أمثال إدوارد سعيد الذي يعرف المثقف تعريفا لا يختلف فيه كثيرا عن تعريفات فكر الاختلاف الذي صار مشاعا لا خاصا بإدوارد سعيد كان يقول تبعا لما صدر به فصله هذا "لكن بالنسبة إلى إدوارد سعيد لا توجد قوانين على أساسها يجب أن يتصرف المثقف أو يتكلم. بل لابد أن يكون المثقف علمانيا بحيث لا يؤمن بأي معبود قد يرشده. وبذلك عليه أن يتخلص من ضغوطات السلطة بأشكالها كافة لكي يصل إلى استقلاله النسبي.... من هذا المنطلق المثقف مغترب وهامشي وهاو ومبدع للغة جديدة يسعى بها كي يقول الحقيقة في وجه السلطة" (ص164).
فهذه الأفكار وإن لم تكن طريفة أو حبسا على إدوارد سعيد دون غيره فإن حسن عجمي حرص على أن يجعل منها موضوع مساجلة بين إدوارد سعيد وعزمي بشارة فالأول يحظى عنده بالتأييد لأنه لم يسقط في الدور في حين يسقط الثاني في الدور رغم وجود نقاط تشابه بينهما فيقول "بينما تعريف عزمي بشارة للمثقف يعاني من الدور. رغم أن تحليليهما متشابهان يقع تحليل بشارة في الدور حين يقول: المثقف... ليس هو كل خاضع لثقافة سائدة سياسية أو دينية بل هو المتعامل بشكل فاعل مع الثقافة السائدة هضما معرفيا وإنتاجا ونقدا.... لكن مفهوم المثقف مشتق من مفهوم الثقافة فهما مفهومان مترادفان وبذلك تعريف المثقف من خلال الثقافة لا يوصلنا إلى فهم معنى المثقف ومدلوله" (ص167 ) .
إن ما يراه البعض من القراء إسهابا لا فضل لحسن عجمي سوى النقل أراه ضروريا لتبسيط آراء الغير ليتسنى نقدها والحجاج لها أو عليها إذ لابد من الاستيعاب والهضم لذلك كان حسن عجمي قادرا على الإستدراك بما يسمح له التعبير عن موقفه الرافض لإدوارد سعيد في حدود إذ يقول "لكن إذا كان إدوارد سعيد يقصد أن المثقف هو الذي لا يؤمن بمصداقية معيار معين من دون معيار آخر وهو الشاك بالدرجة الأولى... فـ "هيوم" هو المثقف أما هيغل واينشتاين فغير مثقفين علما بأنهما لا يتبعان المذهب الشكي بينما هيوم يعتبر مؤسسا له. وهذا طبعا نتيجة غير مقبولة" (ص168).
يرد حسن عجمي على إدوارد سعيد من منطلق مقاربة المثقف بالمواطن الحر في تحديد أهدافه واتباع طريقه الخاص والمبدع لفكر جديد وقيم ومعايير جديدة فيجعل إدوارد سعيد فقط المبدعين الكبار حقا مثقفين كنيوتن وكانط وهيغل.والخلاصة عند حسن عجمي ولا أظنها إلا وقتية "بما أننا لا ننجح في تعريف المثقف وبذلك نفشل في تمييزه عن غير المثقف إذا لا توجد حجة على أنه موجود."(ص168).وبهذا يتسنى لحسن عجمي في شبه تقرير التمييز بين مفاهيم المثقف بدءًا من الحداثة وصولا إلى السوبر حداثة مرورا بـ "ما بعد الحداثة" إذ يقول "ختاما بالنسبة إلى الحداثة المثقف هو مالك المعيار الصحيح للحكم على المعتقدات وصاحب الحقيقة والمعرفة لأنه يوجد معيار صحيح وتوجد الحقيقة والمعرفة. أما بالنسبة إلى ما بعد الحداثة فالمثقف هو الناقد والرافض لمعيار صحيح ولحقيقة ومعرفة واحدة لأن المعيار متكثّر والحقيقة والمعرفة نسبية. أما السوبر حداثة فتقول أن المثقف غير موجود هذا لأن مفاهيم المعيار والحقيقة والمعرفة لابد أن تستبدل بمفهوم الممكنات. فالسوبر حداثة تدرس ما هو ممكن وليس ما هو صادق وما نعرفة بالنسبة إلى معيار معين أو آخر . بدلا من تقول السوبر حداثة أنا أعرف أو أنها الحقيقة بأن كذا تقول من الممكن أن كذا"(ص169 ).
الأخلاق والثورة
في هذا المقال إن ركز حسن عجمي على مسألة الأخلاق من منطلق النظرية الحقوقية واختتم بالنظام الأفضل هو الذي يجمع بين النظامين السابقين (أي النظام الليبيرالي والنظام الاشتراكي) أي هو النظام التوازني (ص175) فإن خلو المقال من الحديث عن الثورة وعلاقتها هنا بالأخلاق لم أتبينه فظلت وظيفة "واو العطف" ضبابية.
مقام الدولة مقام لفرد
كتاب السوبر حداثة يؤلف بطريقة ذكية بين فصول قد تنشر لأول مرة في كتاب السوبر حداثة أو في كتاب آخر وفصول أخرى نشرت في مجلات وصحف مثل السفير وكتابات معاصرة والنهار وفكر.
في مقام الفرد والدولة يتناول حسن عجمي مسائل تهم العملة والدولة، والدولة والمجتمع، والمجتمع والفرد.. يستخلص في ما يخص العملة والدولة قائلا "هذا يعني أن "الدول" تنشأ من خلال قرارات سياسية - اقتصادية من قبل مجموعات بشرية هي إما مجتمعات وإما دول أخرى وإما منظمات اقتصادية. أما نشوء أول دولة في التاريخ فسببه المنظمات الاقتصادية أو العامل الاقتصادي المتمثل في حاجة بناء العملة.. على أساس هذه الفرضية نستطيع أن نفسر نشوء عملة جديدة كاليورو في أوروبا وأن نتنبأ بأن أوروبا ستصبح دولة واحدة." (ص178).
أما عن الدولة والمجتمع فيربط حسن عجمي انطلاقا من منطق هيغل وتود بين نظام الحكم والعلاقات والأسرية ، ولذلك كان نشوء النظام الديمقراطي في إنكلترا بسبب علاقة الأهل بأبنائهم المتسمة بالحرية فيقول "مثال ذلك أن علاقة الأهل بأبنائهم في الأسرة الإنكليزية هي علاقة تتسم بالحرية مما أدى إلى نشوء النظام الديمقراطي الليبرالي في إنكلترا (والمرجع ايمانويل تود ما بعد الإمبراطورية 2003 دار الساقي ص72-73 ).
لكن عجمي يقلب السؤال ويقول لمَ يكون العكس قائلا "أي لماذا ليست الدولة هي التي تشكل المجتمع والعائلة على شاكلتها" (ص178 وينتهي إلى القول "لا يوجد دليل لتفضيل أن الأسرة تشكل الدولة بدلا من العكس" (ص179).
وللتدليل على أن الدولة صانعة المجتمع يحيل إلى سقوط الدولة العراقية ثم يشير إلى الولايات المتحدة الأميريكية التي تتكون من جماعات مختلفة ومتناقضة لكنها تشكل مجتمعا واحدا هو المجتمع الاميريكي." هذا لأنه توجد دولة أمريكية والدولة صانعة المجتمع" (ص179) . وهكذا تصير الدولة "هي الآلية التي تصنع المجتمع.... " ص(179).
وعلى هذا الأساس يعزى تأخر العرب وتخلفهم إلى عدم وجود دولة حسب ما يستنتج حسن عجمي معللا: "غياب الدولة هو سبب غياب الاقتصاديات الحديثة وغياب الطبقة الوسطى والديمقراطية فالدولة وحدها هي القادرة على خلق خطط مدروسة وموارد بشرية ومادية ضخمة" (ص179).
فالدولة تقدم الرواتب الكافية لموظفيها لتشكل الطبقة الوسطى كما تؤدي الدولة إلى نشوء النهضة الأدبية والفنية والفلسفية والعلمية وهذا يقول حسن عجمي: "فحيثما نحد دولا قوية نجد نهضة آداب وعلوم كما في أمريكا الشمالية وأوروبا وحيثما نجد دولا ضعيفة نجد انحطاط الآداب والعلوم كما في دول أفريقيا ، هذا لأن الدولة توجه طلابها وتزودهم بالقدرات المالية والمعنوية والعمل بشكل مباشر أو غير مباشر كأن تقدم المال الوفير إلى الجامعات وبعض المؤسسات"(ص180).
ويختم حسن عجمي فصله هذا بالحديث عن المجتمع والفرد فيسأل "ما هو المجتمع فيجيب بأن المجتمع هو الذي يصنع الإنسان الفرد... كما يسأل بعد أن يصحح بأن الحيوانات قد تتفاعل وتتصارع فتتكافل كالإنسان لكنها لا تكون مجتمعات فيقول: "لكن إذا عرفنا المجتمع من خلال مفهوم الإنسان نتجنب اعتبار أن الحيوانات والحشرات تشكل مجتمعات. من جهة أخرى من هو الإنسان؟ من الممكن القول الإنسان هو مالك الوعي والهوية والشخصية والحرية" (ص180).
أهمية هذا الفصل أنه يضع مفهوم الدولة عند العرب محل شك كما يشرع لسؤال آخر هل للعرب مدينة بمفهومها العصري الحديث علما وأن حسن عجمي يجرؤ على الإفادة من راهنية الأحداث أو ما تسنح به آخر المستجدات العالمية من قراءات ممكنة تستفيد من الماضي والحاضر لتستشرف المستقبل حسب المتاح من الأفكار وذاك ما يفتقر إليه الفكر المعاصر الذي كثيرا ما يظل مكتوفا أمام الأحداث طواعية أم قسرا ولا يكتفي إلا بكتابات الهزيمة وما تضمره من أوجاع الغلبة في الداخل والخارج ولا تثأر لنفسها إلا في وقت متأخر من جثث "الظالمين" الذين يصيرون شياها لايهم سلخها بعد ذبحها وذاك ما يحول الكتابة رواية بمفهوم التسلية والتعزية أو الوقوف على الأطلال فيساعدون صقور المدن ويشرعون لهم حق احتلال قراهم.

* حسن عجمي، السوبر حداثة "علم الأفكار الممكنة" بيسان للنشر والتوزيع والإعلام بيروت 2005م


محمّد خريّف: كاتب وناقد تونسي