الخميس، 5 فبراير 2009

حسن عجمي السوبر حداثة "عالم الأفكار الممكنة



في التّمكّن والإمكان

حسن عجمي السوبر حداثة "عالم الأفكار الممكنة



من البيولوجيا والدين إلى الظواهر الاجتماعية والعقل الجماعي اللامحدد معيار النشوء والتطور على مستوى الدماغ باعتباره معطى بيولوجيا في علاقة مع اليد والجسد بصفة عامة والسلوك الفردي أو الجماعي باعتباره معطى اجتماعيا فالعقل كما يقول حسن عجمي "قد نشأ وتطور واستمر معنا لأنه من غير المحدد أي وظيفته غير محددة" (ص118). أما بالنسبة للنظام الرأسمالي مقارنة بالنظام الاشتراكي والشيوعي فهو نظام غير محدد إذ يقول : "في النظام الرأسمالي من غير المحدد لمن ملكية الأشياء فهي تنتقل من فرد إلى آخر حسب عوامل السوق وحسب العوامل الاجتماعية" (ص118) ، وهذا التفكير يمكن أن يدفع نحو ميدان الدين. فعلة أو سبب بقاء الدين ووجوده حسب حسن عجمي في هذا الكتاب يعود إلى أنه غير محدد:

فالدين يتكون من معتقدات عامة وغامضة مما يستدعي أنه غير محدد ، مثال ذلك عندما يقول الدين إن الله موجود يبقى السؤال من هو الله ؟
من المحتمل وجود أجوبة مختلفة وتوجد أجوبة عدة ومختلفة على هذا السؤال مما يعني أن هذا المعتقد الديني غير محدد بالفعل"(ص119) كما يرد حسن عجمي وفق هذا المنطق في التحليل سبب انتشار الدين بين مختلف الشعوب والثقافات مفسرا ذلك بقوله "بما أن الدين غير محدد إذا أي شعب أو ثقافة قد تقبل به لأنها قادرة على تحويله إلى ثقافة تدعم ثقافتها الأصلية" (ص119).
وعلى قدر ما يكبر مجال اللامحدد في الدين يكون انتشاره أوسع شأن المسيحية والإسلام "يكمن السبب في أن المسيحية والإسلام غير محددين أكثر من تلك الأديان التي انتشرت بشكل أقل.. اللامحدد مسألة درجات بعض الأشياء غير محددة أكثر من بعض الأشياء الأخرى. فمثلا عبادة الله غير محددة أكثر من عبادة الوثن . الله خارج الكون ولا نراه أما الوثن ففي الكون ونراه ونستطيع ملامسته أيضا "(ص120)

اللامحدد وتطور الكائنات الحيّة

رغم تلويح حسن عجمي في أكثر من موضع بمطمح تجاوز البديهيات نراه في هذا الكتاب ينطلق من بعض المسلمات ليستمر في الحجاج على صواب مفهوم اللامحدد من ذلك انطلاقه من مقولة تطور الإنسان من الحيوان وذلك في ما يطرحه من أسئلة تبعث على الاعتقاد أنه يسلم أو على الأقل لا يشك في مصادرة أن الإنسان ينحدر من القردة إذ يقول "السؤال الأول لماذا تطور الإنسان من الحيوان؟ ويستمر في البرهنة قائلا بالنسبة إلى فرضية اللامحدد الحيوان محدد أي معظم صفاته محددة أما الإنسان فغير محدد أي صفاته ووظائفه غير محددة لذلك تطور الحيوان ليصبح إنسانا وأجدني قاصرا على إدراك تحول الحيوان إلى إنسان من جهة وعدم تحوله من جهة أخرى أو أن ظاهرة التحول ظهرت في زمكان ما وغابت في زمكان آخر فيقول "ومن هنا تطور القرد أو الحيوان ليصبح إنسانا ليس سوى أمر طبعي" (ص120) ويعلل سبب التكاثر البشري أو زيادة أفراده ومن ذلك كانت سيطرته على الأرض فانقرضت بمقدمه العديد من فصائل الحيوان فلا يبقى إلا الحيوان ليستمر ويتطور وقذ يتنبأ حسب مبدأ فرضية بزوال الأنواع كافة وعلى هذا الأساس سينهار المحدد من الحياة ويزول وسيوجد اللامحدد ويستمر ويتطور (ص121) واللامحدد نفسه قد ينسحب على أنواع الحيوان فتتعدد به وتتنوع. والأمر قد ينسحب على الآلات الكمبيوترية المتطورة (Robots) "الآلة المتطورة أو الكمبيوتر المتطور يتصرف كأنه حي رغم أنه قد لا يكون حيا كما يتصرف كأنه مفكر رغم أنه قد لا يكون مفكرا." (ص122)
وينسحب مقياس اللامحدد على ماهو ضار ومميت نافع للحياة والبقاء كما ينسحب على العوامل الاجتماعية لتشمل الأنظمة السياسية والمذاهب الدينية فطال مسائل نجاح العلمنة في الغرب ففشلها في الشرق العربي أو الإسلامي فيحكم على نظرية برنارد لويس التي تقول إن الحروب الطائفية الدامية في أوروبا العصور الوسطى إلى ضرورة فصل الدولة عن الدين وهذا ما لم يحصل في العالم العربي الإسلامي لافتقاده إلى حروب طائفية دائمة بالفشل قائلا "لكن نظريته فاشلة لأن الشرق قد عانى من حروب طائفية شرسة كالتي في أوروبا ومع ذلك لم تؤد تلك الحروب إلى فصل الدين عن الدولة في شرقنا" (ص128).

والفرضية الأفضل في نظر حسن عجمي هي القائلة بأن مبدأ العلمنة (أي فصل الدين عن الدولة والعكس) في أوروبا كان متأقلما مع السلوك والتفكير اللاديني للطبقات السياسية والفكرية والعلمية في تلك القارة فهذا الفصل يتأقلم مع نشوء الفكر الاجتماعي والفلسفي والعلمي لأنه لا يستعين بمفاهيم الدين كمفاهيم الوحي والنبوة والمعجزة والله من أجل أغراضه كالتفسير والتنبؤ" (ص128)
وهكذا يفسر عجمي أسباب نشوء العلمنة في الغرب وانعدام نشوئها في الشرق العربي أو الإسلامي بقوله "نشأت العلمنة في الغرب ولم تنشأ في الشرق العربي الإسلامي لأنها أكثر تأقلما مع ما يحيط بها في الغرب وأقل تأقلما مع ما يحيط بها في الشرق" (ص129). إلا أن حسن عجمي يقر بصراع العوامل المختلفة المميت والعامل الأقوى هو الذي ينتصر ويبقى وكأنه بهذا لا يبتعد كثيرا عن ماركس وداروين وبناء على ذلك يضرب مثالا بالأصولية الإسلامي وأسباب نشوئها في العقود الأخيرة مبينا أن مرجع ذلك النشوء "انه أصبح من الممكن التكلم عن أصولية إسلامية إشتراكية أو ديمقراطية أو قومية أو أن نتحدث عن تنظيم اقتصادي خاص تتكفل به المنظمات الأصولية. لقد اكتسب العامل الديني في شرقنا صفات العوامل الاقتصادية والقومية والأيديولوجية من اشتراكية أو ديمقراطية مما أتاح له الإطاحة بالعوامل الأخرى" (ص 129).
العلم // الواقع . الدرس // الخلق . الوعي// انعدام الوعي
مسألة جديرة بالأهمية المتأتية من طرافتها تتمثل في أن العلوم المختلفة لا تدرس واقعا بل تخلق واقعا وليست تقريرا لأمور محددة أو واقعة وإنما هي نماذج أو اقتراحات وشتان بين ما ندرسه على أساس انه معطى موضوعي وما نشئه بمعنى نقترحه باعتباره مشروعا ومنطلق حسن عجمي علوم الاجتماع إذ يقول "هذا لأن النظريات الاجتماعية المختلفة لا تعبر عما يحدث في المجتمع وكيفية حدوثه بل هي نماذج أو اقتراحات يتأثر بها المجتمع ويعمل على أساسها" (ص131)
حسن عجمي يراوح في هذه المسألة بين مواقف الحداثة وما بعد الحداثة والسوبر حداثة إذ يقول "تقول الحداثة بأن العلوم الاجتماعية علمية أو شبيهة بالعلم وترفض ما بعد الحداثة ذلك كما مع إدوار سعيد. أما السوبر حداثة فتعتبر العلوم الاجتماعية علمية لأنها تخلق الواقع. فلا يوجد داع لاعتبار أن العلم يعبر عن الواقع بدلا من خلقه فإجراء التجربة العلمية أو القياس العلمي في عالم ما دون الذرة يخلق الكون ما دون الذري كما تقول ميكانيكا الكم..
والنظرية الماركسية تكون مثالا لهذه الفرضية فهي حين تقول بصراع الطبقات لم تعبر عن حقيقة قائمة في الواقع الاجتماعي بقدر خلقها للواقع وفي ذلك يقول حسن عجمي "لقد خلقت هذه النظرية الطبقات وصراعها فعندما اعتبر أفراد المجتمع أنهم منقسمون إلى طبقات متصارعة تكونت الطبقات وصراعها. هذا لأنه من دون وجود وعي بوجود الطبقات الاجتماعية وصراعها لا تنشأ الطبقات وصراعها" (ص133)
والنظرية الماركسية لم تفسر الواقع الصيني قبل تبنيه لها بل خلقت الواقع الصيني وهنا يقول حسن عجمي تكمن علميتها لأنها أصبحت صادقة بعد تبنيها فمن الممكن تفسير الواقع الصيني المعاصر بنجاح من خلال النظرية الماركسية وما تم هنا يصدق على النظريات المختلفة كافة." (ص133)
الظواهر الاجتماعية وحالة التراكب
أشعر قارئا فصول حسن عجمي في هذا الكتاب أن ما يتعلق بفرضيات اللامحدد وغيره من المفاهيم كمفهوم التراكب لم يكن أمرا جديدا أو هو قد طرق في كتابات خارج اللغة العربية. إلا إنني أجد حسن عجمي مستوعبا المسائل بشكل يسمح له مقاربة المفاهيم المستطرفة بما يتلاءم ولا يتلاءم مع المدونة العلمية العربية دون أن يخفي ذلك أو يتستر عما يفعله أو يتردد في بعض الأمور فلا يعلن حكما نهائيا . ففي موضوع التراكب يجرؤ حسن عجمي على القول "لنسرق من ميكانيكا الكم مفهوم التراكب" (ص135) أو يقول "لا توجد قوانين وميول تحكم المجتمعات (سنعدل هذه الفرضية لاحقا)" (ص138) فحسن عجمي لا تستبد به سلطة المعلم الذي يخشى أن يعترف بخطئه أمام الصبية أو الكهول من الطلبة. حالة التراكب كما يفهم من كلام حسن عجمي هي حالة بين بين // نصف الحياة نصف الموت الوجود وغير الوجود الغياب والحضور ففي ميكانيكا الكم قط شرود نغر نصف حي ونصف ميت أي هو في حالة تراكب... الإلكترون في حالة تراكب... فلم لا تكون الظواهر الاجتماعية هي أيضا في حالة تراكب؟ (ص135)
والمجتمع العربي يعد أوضح مثال في نظر حسن عجمي على المجتمع التراكبي. فالمجتمع العربي حاضر غائب إذ هو يمثل مجتمعا مجتمعات مخصوصة تسمى دولا وهو في نفس الوقت مجتمع واحد يقول حسن عجمي في ذلك "أما المجتمع التراكبي فأوضح مثال عليه المجتمع العربي. ينقسم المجتمع العربي إلى مجتمعات تسمى دولا كالكويت ولبنان هذه المجتمعات لا تتفاعل عمليا فيما بينها وبذلك لا تشكل مجتمعا. لكنها تتفاعل على مستوى الأحداث الكبرى فهي مثلا تتأثر بما يحدث من مآس في فلسطين. وبذلك تشكل مجتمعا. المجتمع العربي حاضر غائب" (ص136) ... حال التراكب تصدق على التراث العربي الإسلامي الذي يحركنا لكننا نجهل ما هو. كما تصدق حال التراكب هذه على انتمائنا أنحن شرقيون أم غربيون واللغة تراكبية أيضا.
يخلص حسن عجمي إلى القول: "إن الظواهر الاجتماعية في حالة تراكب وبما أنها كذلك تظهر الفوضى وتراها" (ص 138) منشأ هذا الاستنتاج أو الفرضية فرضية أخرى تقول "إن الظواهر الاجتماعية تسبح في عالم من الفوضى" (ص 138) ويتحدث حسن عجمي عن أهمية الموقف الوسطي عند تناوله مسألة قوانين الفرد والمجتمع كما تحدث عن مبدأ اللاحتمية الاجتماعية وفضائله عند تطرقه لمسألة "الوعي والظواهر الاجتماعية" من هذه الفضائل أنه يؤمن لنا الحرية ويفسر التخلف.
وعن سؤال "كيف يعمل العقل" يجيب حسن عجمي. "بما انه من غير المحدد ماذا كان العقل حسابيا أم لا ومن المحدد ماذا إذا كان العقل محكوما بقوانين أم لا إذا سيظهر العقل مرة على أنه حسابي وأخرى على أنه غير حسابي ومرة على أنه محكوم بقوانين وأخرى على أنه غير محكوم بقوانين مما يترتب نشوء الظواهر المتضاربة السابقة" (ص146)
أما عن العقل الجماعي فيقول حسن عجمي بعد مقاربة المسألة اعتمادا على بتنم Putnam وبيرج Burge وعلى نظرية ميكانيكا الكم "لذلك يحق لنا استنتاج أنه لا يوجد للشخص في انعزال عن عقل الآخر بل يوجد عقل واحد لكل البشر" (ص150) إلى أن يقول "من الممكن لنا أن نعرف ما يعتقده الآخرون بما أن عقولنا كلها تشكل عقلا واحدا لاغبر." (ص150)وهنا نسأل مع عجمي عن مدى صلوحية "مقولة الإنسان مدني بالطبع" وعما يترتب عن بطلان مقولة العقل الخاص "أي إذا وجد إنسان معزول في جزيرة معزولة فلن يكون لديه عقل ، بكلام آخر من المستحيل وجود عقل لوحده منعزل عن العقول الأخرى" (ص148)وقد يجرنا السؤال عن العقل الجماعي إلى السؤال عن العقل الخاص المطلق أو المثالي السماوي وهل يمكنه عن ينشأ في معزل عن العقل الأرضي المدني. بديهيات مسكوت عنها يحملنا كتاب "السوبر حداثة" إلى النبش عنها في منهجية العالم المختلف في أرضية ثقافية تخنع في خوف إلى سلطة العقل الواحد عقل العصا والقطيع.

محمد خريف/ كاتب و ناقد من تونس