الثلاثاء، 10 فبراير 2009

العالم الذي توسعه الاكتشافات





العالم الذي توسعه الاكتشافات بات محتاجاً إلى لغات جديدة لوصفه


حسن عجمي

افتتحت الإنسانية عصر السوبر حداثة من خلال مفهوم السوبرمان. والسوبرمان أو السوبر إنسان هو الذي يتمكن من خرق قوانين الطبيعة وتقاليد البشر ويقينياتهم. من هنا تتضح فكرة إمكانية أن تتنوع قوانين الطبيعة وتختلف بما يتضمن أن ثمة أكواناً ممكنة عديدة ومختلفة عن بعضها البعض. وبما أن لكل كون قوانينه الطبيعية الخاصة والمختلفة، من الممكن إذن أيضاً نشوء لغات جديدة ومختلفة. على هذا الأساس بدأت الفلسفة والعلوم في انتاج لغة جديدة بعبارات ومصطلحات جديدة لم تعرفها الإنسانية من قبل. لقد قدّمت الفلسفة المعاصرة مصطلحات فلسفية جديدة أصبحت جزءاً من لغات العالم. من تلك المصطلحات مصطلح البيوأخلاق Bioethics الذي يشير إلى الأخلاق المطبّقة على علوم البيولوجيا وعلم الدواء. والبيو أخلاق مهتمة بالأسئلة الأخلاقية المنبثقة عن العلاقات القائمة بين العلوم الإنسانية والعلوم السياسية والقانونية واللاهوتية والفلسفية وعلوم البيوتكنولوجيا، والمصطلح الأخير، أي البيوتكنولوجيا يدل على ميدان علمي جديد ويعني التكنولوجيا المعتمدة على البيولوجيا خاصة حين تُستخدَم التكنولوجيا في الزراعة والدواء والطعام. كما تشير البيوتكنولوجيا إلى الهندسة الوراثية ودراسة إمكانيات تغيير الكائنات الحية وفقاً لحاجات الإنسانية. هكذا تتشابك اللغة الفلسفية الجديدة مع اللغة العلمية الجديدة؛ فمفهوم البيو أخلاق يستدعي مفهوم البيوتكنولوجيا. من هنا رأينا أن الفلسفة والعلم يعملان معاً على صياغة اللغة الجديدة. بالإضافة إلى ذلك، انتجت الفلسفة مصطلحاً جديداً آخر هوالنيوروفلسفة Neurophilosophy. والنيوروفلسفة تجمع بين الميدان الفلسفي وميدان دراسة الدماغ ونيوروناته Neurons. وهي تحاول حلّ المشاكل الفلسفية المتعلقة بالعقل على ضوء علوم النيورونات. هذا مثال آخر على تزاوج الفلسفة والعلم وانتاجهما المشترك للغة جديدة. من جهة أخرى، إن نظريتنا الفلسفية أوالعلمية تحدِّد لغتنا وتكوّنها. فمثلا ، المادية الإقصائية مذهب فلسفي يعتبر أنه لا توجد اعتقادات ورغبات بل ثمة حالات فسيولوجية ونيورونية في الدماغ فقط لا غير. بمعنى آخر، لا وجود للعقل بل إن الوجود للدماغ وحده. وبذلك تدعو المادية الإقصائية إلى استبدال لغتنا المستخدمة لمفاهيم الاعتقاد والرغبة والشعور والعقل بلغة أخرى تعتمد مصطلحات العلم كمصطلح النيورونات التي تحيا في الدماغ وتتمكن من جعله يعمل. من هنا إذا قبلنا بالمادية الإقصائية سوف نملك لغة أخرى غير لغتنا الحالية. لكننا اليوم نستخدم لغتنا الحالية المتضمنة لمفاهيم الاعتقاد والرغبة لأننا نقبل بالموقف الفلسفي الرافض للمادية الإقصائية. بذلك تكونا نظريتنا الفلسفية تشكِّل لغتنا. من المنطلق ذاته، يطرح الفيزيائي لي سمولن نظرية جديدة مفادها أن المكان والزمان يتكوّنان من ذرات. إذا قبلنا بهذه النظرية العلمية سوف نتحدث عن ذرات الزمن وخصائصها وعلاقاتها بدلاً من التحدث عن ساعات الزمن وسنواته وقرونه. النظرية العلمية تحدِّد اللغة؛ فمع اختلاف نظرياتنا العلمية تختلف لغتنا. كل هذا يرينا أن الفلسفة والعلوم هي الأساس في بناء اللغة. لذا من غير المستغرب أن تبني الفلسفة والعلوم المعاصرة لغة جديدة قد تسيطر على لغاتنا التقليدية أوتحل مكانها. مثال ذلك أن علوم الفيزياء المعاصرة تتحدث عن مواد مختلفة لم نكن نعرف أنها موجودة أصلاً. ولقد اصطحبت هذه الاكتشافات النظرية مصطلحات ومفاهيم جديدة تشير إلى تلك المواد المكتشفة نظرياً أو عملياً. وبذلك أضافت الفيزياء إلى اللغة الإنسانية مصطلحات جديدة. من تلك المصطلحات مصطلح "سمادة" (Smatter) المكوّن من حرف "س" وكلمة مادة. والسمادة تتكوّن من السوبرشركاء Superpartners. والسوبر شركاء هي جسيمات شبيهة بالجسيمات المعروفة كالالكترون لكنها تختلف عنها في دورانها وفي كتلتها. فكل جسيم طبيعي يصاحب شريكاً له هوالسوبر شريك. وبذلك نحصل على مفاهيم جديدة وعديدة منها مفهوم "السالكترون" (Selectron) المكوَّن من حرف س وكلمة إلكترون، وهوسوبرشريك الإلكترون المعروف (Perseus Publishing Gordon Kane:. (Supersymmetry . 2000) لقد بدأ هذا الخلق المغاير للكلمات مع ميكانيكا الكمّ التي تستخدم مصطلح السوبرمكان Superposition. بالنسبة إلى ميكانيكا الكمّ، من غير المحدَّد ما إذا كان الجسيم جسيماً أم موجة. هذا لأن عملية الاختبار تبين أن الجسيم هو كالإلكترون يعبر من فتحتين في آن معاً وكأنه موجة بدلاً من أن يكون جسيماً رغم أنه من المفروض أن يكون جسيماً. على هذا الأساس اعتبر العلماء أن الجسيم هذا يعبر من خلال السوبر مكان لاستحالة أن يعبر من الفتحتين معا في الوقت ذاتهof Space and Time . 1996 . Princeton University Press(Stephen Hawking and Roger Penrose : The Nature).بالإضافة إلى ذلك، يستخدم الفيزيائي بول ديفيز مصطلح السوبر في سياقات مختلفة. ففي معرض شرحه لنظرية التضخم الأزلي يستعمل مصطلح السوبر فضاء. بالنسبة إلى نظرية التضخم الأزلي يتعرض الكون لانفجارات عظمى متكررة تؤدي إلى نشوء أكوان متتالية. وبذلك لا توجد بداية ولا نهاية للوجود، بل يتعاقب على الوجود نشوء كون من انفجار عظيم يُستبدَل بكون آخر ينشأ من انفجار عظيم آخر، وهكذا تتوالى الانفجارات العظمى ونتائجها المتمثلة في الأكوان المتعاقبة على الوجود. وكل تلك الأكوان اللامتناهية في العدد تسكن في السوبرفضاء. من هنا مصطلح السوبرفضاء يعني الفضاء الذي يضم كل الأكوان الممكنة التي تنشأ من الانفجارات العظمى كافة . كما أن السوبرفضاء يدل أيضا على الفضاء القائم لفترة زمنية غير متناهية. فالسوبرفضاء هوالفضاء الممتد من الأزل إلى الأبد. وفي سياق شرحه لنظرية التصميم العاقل يستخدم بول ديفيز مفاهيم السوبرعقل والسوبرحضارة والسوبرتكنولوجيا. بالنسبة إلى هذه النظرية، الكون نتيجة تصميم عاقل لأن الكون شديد التعقيد وقد نشأت قوانينه ومواده الطبيعية وكأنها تهدف إلى خلق الحياة. فلو أن قوانين الطبيعة وموادها اختلفت ولو قليلاً عما هي عليه ما كانت لتنشأ الحياة على أرضنا. من هنا تدعي هذه النظرية أنه لا بد من أن تصميماً عاقلاً خلق الكون على أساس مخطط مدروس. لكن من الممكن لهذا التصميم العاقل أن يكون نتيجة سوبرعقل أوسوبرحضارة قامت ببناء الكون من خلال الاستعانة بسوبرتكنولوجيا Paul Davies The Goldilocks Enigma .2006.Allen ) : (Lane لا يكتفي العلم بخلق مصطلحات ومفاهيم جديدة بل يتعدى ذلك إلى تشكيل عبارات جديدة. هذه العبارات تتخذ شكل المعادلات الرياضية وهي القوانين الطبيعية بالضبط. فمثلا ، قانون أينشتاين مُعبَّر عنه من خلال العبارة التالية: E = MC2 . هذه عبارة لغوية لأنها تحمل معنى. ومعناها أن الطاقة تساوي الكتلة مضروبة بسرعة الضوء المضروب بنفسه. هكذا القوانين الطبيعية التي ترسمها العلوم هي عبارات لغوية جديدة تساهم مع المصطلحات والمفاهيم العلمية الجديدة في خلق لغة جديدة. كما أن العلم يحوّل اللغة إلى معادلات على أساسها تتكوّن اللغة العادية المتداولة بيننا. فمثلاً علم القواعد التوليدية يرسم معادلات لغوية مجردة على ضوئها تولد العبارات التي نستخدمها . هكذا يبني العلم لغة جديدة من خلال تجريده للغة التقليدية. فمن منطلق القواعد التوليدية تكون اللغة الجديدة مكوَّنة من معادلات مجردة. وبعد كل هذه الصياغات للغة المستقبلية لا بد من انبثاق مفهوم السوبرلغة. وبالفعل بنى عالِمُ التواصل اللغوي بيار ليفي مصطلح السوبرلغة وأشار به إلى تبادل الأدوار بين الكتابة والقراءة ؛ فالذي يُحدِّد حقول الدلالة الممكنة للنص من خلال مشاركته في بناء النص هو أيضا قارئ للنص، وكل قراءة للنص هي فعل كتابة له.أخيراً، رأينا كيف أن الفلسفة والعلوم تخلق لغة بل لغات جديدة. ومن دون الفلسفة والعلم ما كنا لنصل إلى بناء مفاهيم وعبارات جديدة. على هذا الأساس، إذا لم نشارك الحضارة في صناعة الفلسفة والعلوم سوف نخسر لغتنا العربية. فدم اللغة كامن في مفاهيمها الجديدة، ونبض اللغة قائم في الأفكار الجديدة التي على أساسها تنشأ المفاهيم والمصطلحات الجديدة. لكننا اليوم نرفض العلم والفلسفة وبذلك نحيا بل نموت باستمرار في عصر السوبرتخلف بدلا من أن نحيا في السوبرحداثة وأفكارها ومفاهيمها.