الاثنين، 2 مارس 2009

اللغة نموذج بيولوجي

كتاب ((اللغة نموذج بيولوجي)) للأمريكية ميليكن:

المعنى قرار اجتماعي




حسن عجمي


تدافع الفيلسوفة الأميركية ميليكن عن نظرياتها في اللغة والمعنى في كتابها الأخير <<اللغة: نموذج بيولوجي>>. فتعتبر ان الوظيفة الأساسية للغة هي التواصل، وان المعنى هو الاستعمال. سنراقب بعض تفاصيل فلسفتها في اللغة، ومن ثم نقيّم موقفها الفلسفي من خلال مقارنته مع نظرية المعنى كقرار.
تقول ميليكن إن مبادئ اللغة غير تقييمية بل هي أشبه بالوظائف التي تؤدي الى بقاء الأجناس البيولوجية حية. بكلام آخر، مبادئ اللغة مبادئ بيولوجية، ومن هذه المبادئ مبدأ قول الحقيقة في خطابنا (Ruth Millikan: Language: A Biological Model. 5002. Clarendon press. Oxford. p. vi. p. 091). على هذا الأساس تقول ميليكن ان بعض الأنواع اللغوية في التعبير تستمر في التداول لأن إنتاجها ونتائجها تفيد كُلا من المتكلم والمتلقي. هذا شبيه بما يحدث للكائن البيولوجي الذي يكتسب الصفات التي تخدم بقاءه حياً (p. 64. p. 35). وكما ان البشر يكررون التصرفات الناجحة في تحقيق أهدافهم، يتم تكرار أشكال لغوية معينة لأنها مفيدة في الوصول الى نجاحاتنا كبشر. هذه الأنواع اللغوية (كعبارات الشرط مثلا) تشكل الأعراف اللغوية. فالأعراف اللغوية تنشأ وتنتشر لأنها تقدم حلولاً لمشاكل المتخاطبين. من هنا، نستمر في إنتاج بعض الأشكال اللغوية لأنها تؤدي بالمتلقي الى ان يستجيب باستجابات مفيدة في تحقيق أهداف المتكلم. لكن لا بد للأعراف اللغوية ان تخدم مصالح المتكلمين والمتلقين معاً لكي تستمر وتبقى (pp. 55 - 85). تضيف ميليكن ان الوظيفة الأساسية للغة هي جعل الأعراف اللغوية ممكنة، ووظائف الأعراف اللغوية هي وظائف تواصلية. على هذا الأساس تستنتج ان الوظيفة الأساسية للغة تكمن في تحقيق التخاطب والتواصل بين المتكلم والمتلقي (pp. 72-82. p.93).
بالنسبة الى ميليكن، مبادئ اللغة هي الاستعمال اللغوي الذي يملك قدرة على الاستمرار. والمبادئ اللغوية وسائل على أساسها تنبثق التصرفات اللغوية، فالمبادئ طُرق للقيام بتصرفات معينة. من خلال هذا النموذج الفكري تعتبر ميليكن ان المعنى استعمال، فالذي يحدد معاني الألفاظ والعبارات هو استعمالها بطرق معينة. وتؤكد على هذا الاتجاه حين تقول ان المعنى وظيفة. فمعنى اللفظ المعين هو ما يقوم به هذا اللفظ. ووظيفة العبارة ذات المعنى تكمن في انها متى تُلفظ او تُكتب تؤدي بالمتكلمين الى استعمال تلك العبارة من جديدكما تؤدي بالمتلقين الى ان يكرروا الاستجابات ذاتها. أحد أدلتها على صدق تحليل المعنى من خلال الاستعمال هو التالي: كلمة <<مرحبا>> ليس لها قيم صدق بل لديها وظيفة اي استعمال. هكذا معنى <<مرحبا>> (كتحية) محدد من قبل استعمال مصطلح <<مرحبا>> وليس محددا من قبل متى يصدق ومتى يكذب. (p38 p.68 pp.98 - 09. pp.29-59).
من جهة اخرى، تقول ميليكن إن إحدى وظائف اللغة هي إنتاج الاعتقادات الصادقة (p. 091). هكذا نجد ان العامل <<البيولوجي>> في اللغة هو الأساس لأنه من خلال اكتسابنا للاعتقادات الصادقة ننجح في البقاء، فلو ان معظم اعتقاداتنا كاذبة لما استطعنا ان ننجو مما يحيط بنا من مخاطر. على أساس نموذجها البيولوجي للغة تعتبر ميليكن ان اللغة وسيلة لإدراك الكون وما يحتوي تماما كالسمع والبصر. فاللغة تتكلم الى الطفل مباشرة كما يفعل البصر والسمع واللمس. فمن خلال اللغة نحصل على إدراك مباشر للأشياء والأحداث وصفاتها. مثل على ذلك ان الكلمة تجعلنا ندرك الشيء المشار إليه بتلك الكلمة. فاللغة تقدم المعلومات عما يوجد في محيطنا تماما كباقي الحواس (p. 401. pp. 611 -911. p. 612).
لكن نظرية الاستعمال في تحليل المعنى تواجه مشاكل مختلفة منها: أولا، عبارة <<1-1-30>> هي عبارة رياضية ذات معنى رغم أنها عبارة كاذبة. وهي ذات معنى لأننا نفهمها بمجرد ان نفكر فيها. لكن لأنها كاذبة بالضرورة لا استعمال لها. هكذا نجد ان عبارة <<1>> لا استعمال لها لكنها ذات معنى، وبذلك من الخطأ تحليل المعنى على أنه الاستعمال. فلو ان المعنى هو الاستعمال، وبما ان لتلك العبارة الرياضية معنى، إذا لا بد حينها من وجود استعمال لها. لكن لا استعمال لها. وبذلك من الخطأ تحليل المعنى على أنه الاستعمال.

نظريتان

ثانيا، توجد نظريتان أساسيتان في العلم هما النظرية النسبية لأينيشتاين ونظرية ميكانيكا الكم، وهما في اختلاف وتعارض وصراع. فبالنسبة الى نظرية النسبية، الكون حتمي. لكن بالنسبة الى نظرية ميكانيكا الكم، الكون غير حتمي. على هذا الأساس يعتبر العديد من العلماء ان النظرية الصادقة في تفسير الكون لم تكتشف بعد. توجد النظرية الصادقة هذه رغم أننا لا نعرفها بعد، ومن المفروض أنها ستوحد بين نظرية النسبية ونظرية ميكانيكا الكم. والعديد من العلماء يعتبر أنه من الممكن ان تكون نظرية الأوتار هي النظرية الصادقة في العلوم وستتمكن من التوحيد بين النظريتين النسبية وميكانيكا الكم. وبذلك من الممكن ايضا ان لا تكون هي النظرية الصادقة. فلم يكتشف العلماء القانون او القوانين الاساسية لنظرية الأوتار رغم اتفاقهم على ان نظرية الأوتار تؤكد على ان كل شيء يتكون من اوتار وأنغام الاوتار. من هنا، النظرية الصادقة في تفسير الكون لم تكتشف بعد (أنظر: Michio Kaku: Parallel World. 5002. Doubleday. pp.581 - 881). الآن، رغم ان النظرية الصادقة موجودة، لا يوجد استعمال لها لأننا لا نعرفها بعد. من جهة اخرى، لأن النظرية الصادقة هي نظرية علمية، إذا لديها معنى. هكذا نجد ان لتلك النظرية معنى من دون وجود استعمال لها. وبذلك من الخطأ تحليل المعنى على أنه الاستعمال. فلو ان المعنى هو الاستعمال، ولكون تلك النظرية العلمية الصادقة لا استعمال لها، اذا ستغدو تلك النظرية العلمية لا معنى لها، وهذه النتيجة كاذبة. بذلك من الخطأ تعريف المعنى على انه استعمال.
أما نظرية القرار فتحلل المعنى على أنه قرار اجتماعي. والقرار الاجتماعي يتضمن قرار العلماء في الفيزياء والرياضيات، فالعلماء يشكلون جماعة معينة. من هذا المنطلق نتمكن من تفسير لماذا عبارة <<1>> لديها معنى ولماذا النظرية العلمية الصادقة والتي لم تكتشف بعد لديها معنى رغم ان لا استعمال لتلك العبارة ولتلك النظرية. والتفصيل هو التالي: لعبارة <<1-1-30>> معنى لأن علماء الرياضيات قرروا ذلك. والنظرية العلمية الصادقة والتي لم تكتشف بعد لديها معنى لأن علماء الفيزياء قرروا ذلك، اي قرروا أنها موجودة وأنها نظرية علمية. هكذا تنجح نظرية القرار في التعبير عن وجود معنى لتلك العبارة وعن وجود معنى لتلك النظرية العلمية بينما نظرية الاستعمال تفشل في ذلك. هذا يدلنا على مصداقية نظرية القرار.
أخيرا، من المعروف في الآداب الفلسفية انه اذا غيرنا استعمال مفهوم معين وبدلنا سياقه سوف يتغير معنى ذاك المفهوم. كما من المعروف في الفلسفة انه اذا بدلنا قيم الصدق لعبارة ما سوف يتغير معنى ذلك العبارة. فمثلا، اذا كانت عبارة <<الثلج ابيض>> صادقة اذا وفقط اذا الثلج اخضر، حينها عبارة <<الثلج ابيض>> تعني الثلج اخضر ولا تعني الثلج ابيض. هكذا مع تغير قيم الصدق يتغير المعنى. لكن كل هذا لا يشير الى ان المحدد الاساسي للمعنى هو الاستعمال والسياق او قيم الصدق. بل هذا يدل على ان القرار هو المحدد الاساسي للمعنى. فقبل ان نغير استعمال المفهوم وسياقه، وقبل ان نبدل قيم الصدق، لا بد ان نتخذ قرارا بذلك. هكذا يغدو القرار هو المحدد الاساسي للمعنى. على هذا الأساس نؤكد على ان المعنى هو قرار اجتماعي. ولا بد من اعتباره كذلك ليصبح المعنى مشتركا بين أفراد المجتمع.




الرابط :http://www.alimbaratur.com/All_Pages/Baydat_T_Stuff/B_T_51/B_T_51.htm