الثلاثاء، 10 مارس 2009

أسئلة حسن عجمي تثير العصف الذهني



أسئلة حسن عجمي تثير العصف الذهني

علم الأفكار يبعد الباحث عن الوقوع في التناقض

عندما قرأ المفكرون الواقع العربي وجدوا أن أهم المشاكل التي تعترضهم هي مشكلة علاقة العرب بتراثهم من جهة، وعلاقتهم بالحاضر الغربي الذي يحاصرهم بمنجزاته العلمية والفكرية من جهة ثانية، فنراهم ابتداء من محمد عابد الجابري وأدونيس واحميدة النيفر وأبو يعرب المرزوقي وغيرهم قد اهتموا بهذه المشكلة ، وبالتأكيد لم يكن هؤلاء وحدهم، فقبلهم محمد عبده والأفغاني وطه حسين سعوا في كتاباتهم إلى إيجاد علاقة رابطة، أو صيغة جامعة تحكم علاقة تراثنا العربي بالحاضر الغربي، وهذا الهاجس نراه في الوقت الحاضر وقد امتد إلى المفكر اللبناني حسن عجمي الذي يخوض غمار الكتابة الفلسفية منذ فترة غير قصيرة، متخطياً في كتاباته العديد من الحواجز الفكرية محاولاً الوصول إلى مفهوم معرفي خاص، يسعى إلى تكريسه، كأساس ينطلق منه إلى النواحي الأكثر قلقاً في المسار الفكري والمعرفي، والفلسفي، والعلمي، ضمن سلسلة السوبريانية( السوبر أصولية، السوبر حداثة، السوبر تخلف، السوبر معلوماتية، السوبر مثالية، والسوبر مستقبلية) وكذلك مؤلفاته الأخرى( مقام المعرفة، الميزياء) بالإضافة إلى كتاب آخر مختلف يندرج في إطار الشعر بعنوان( مرايا العقول، الشعر العلمي).
في السوبر حداثة ينطلق من بعض المسلمات ليستمر في الحجاج على صواب مفهوم اللامحدد، وفي تعريفه للسوبر حداثة يرى أنها المذهب الذي يستخدم مفاهيم ومناهج ما بعد الحداثة من أجل الوصول إلى الهدف الأساسي للحداثة وهو المعرفة، ويضرب مثالاً على ذلك بمحاولات العلماء والفلاسفة في تفسير مبدأ اللاحتمية أو مبدأ اللامحدود، وهو مفهوم ما بعد حداثوي من أجل الوصول إلى المعرفة، وهو الهدف الحداثوي. من هنا، يرى أن السوبر حداثة تستغل ما بعد الحداثة للوصول إلى أهداف الحداثة.
‏أما علم الأفكار- حسب رأيه- فيدور في فلك السوبر حداثة، لأنه لا يهدف إلى معرفة العالم الواقعي بشكل مباشر بل يدرس العوالم الممكنة والأفكار الممكنة، وكذلك يحاول الوصول إلى تحديد مجموعة من الأفكار والمذاهب الفكرية التي من الممكن أن توجد، أو التي من الممكن أن يفكر بها فرد ما في عالم ما، أو التي من الممكن أن تكون صادقة في عالم ما. فالفائدة الحقيقية من علم الأفكار تكمن في رفده للعالم بحجة معرفية كي يكتب وينشر ما فكر به على الرغم من أنه غير مقتنع كلياً بما كتب أو فكر به، والحجة الأساسية الداعمة لهذا العلم أنه يتجنب المذهب الشكلي، ويملك قدرة تفسيرية ناجحة في تفسير بعض الظواهر، ولديه أيضاً، القدرة على التنبؤ بالأفكار والمذاهب التي قد تنشأ في المستقبل دون منهج محدد له. وهكذا يفسر علم الأفكار بأنه العلم الذي يدرس العوالم الممكنة الشبيهة بعالمنا وغير الشبيهة به، كما أنه يساعد الباحث على عدم القلق بالنسبة إلى السقوط في التناقض، هذا لأننا نعتني ببناء الأفكار التي من الممكن التفكير فيها ولكننا لا نتخذها كمعتقدات نهائية.‏
والمثال الأساس الذي اعتمده الباحث في تطبيق السوبر حداثة هي الديمقراطية وحقوق الإنسان في إعادة توزيع الثروة والحرية، فوجد أن الغرب قد توصل إلى جعل الديمقراطية الليبرالية نظاماً ناجحاً، وسعى فكره الفلسفي إلى تحديد ماهيتها وأبعادها وشروطها، كالفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وشفافية هذه السلطة.
أما الليبرالية فتتمثل أساساً في حقوق الحرية كحق كل فرد في التصرف بحرية، وحقه في التعبير، وحقه في ممارسة شعائره الدينية، ومن الحقوق الليبرالية أيضاً، عدم تدخل الآخرين أو السلطة بخصوصيات الفرد، وحق الملكية الخاصة. ولا أحد يستطيع أن يرفض نظاماً أخلاقياً وإنسانياً كهذا لكن السوبر حداثة كما يراها الباحث، ترى أن الذي يميز الديمقراطية هو أنها تخلق التعددية بدلاً من أن تحافظ عليها، بمعنى آخر، لا بد للديمقراطية – الليبرالية أن تهدف إلى بناء مجتمع متعدد الأعراق والمذاهب والأفكار وبذلك تزول الأكثرية وديكتاتوريتها، وحينها فقط تصبح المشاركة الاجتماعية والسياسية مشاركة ديمقراطية وحرة.
‏ومن بين الأفكار الممكنة التي تطرحها السوبر حداثة فكرة إعادة توزيع الثروة على أساس رفع دخل الفرد، فعندما يرتفع دخل كل فرد إلى أقصى ما يأمل، حينها يتكون المجتمع من أفراد أحرار في تصرفهم وفكرهم، والأمر كذلك ينطبق على المثقف، فالحداثة ترى المثقف على أنه مالك المعيار الصحيح للحكم على المعتقدات وصاحب الحقيقة والمعرفة، أما ما بعد الحداثة، فالمثقف هو الناقد والرافض لمعيار صحيح ولحقيقة ومعرفة واحدة لأن المعيار متكثر والحقيقة والمعرفة نسبية. أما السوبر حداثة فتقول إن المثقف غير موجود، لأن مفاهيم المعيار والحقيقة لا بد أن تستبدل بمفهوم الممكنات. فالسوبر حداثة تدرس ما هو ممكن وليس ما هو صادق، وما هو معرفة بالنسبة إلى معيار معين أو آخر.
‏وفي مقام آخر يتطرق إلى الفلسفة الافتراضية والنصوص الممكنة فيعرّف النص الافتراضي بأنه المنبثق من العدم لأنه يخلو من مخطط للأحداث الأساسية الذي من خلاله يبني الأدب. من هنا، فإنه من المستحيل اختصار مضمون الكتاب الافتراضي في جملة أو جملتين، لأن مضمونه الافتراضي عن النص الواقعي، هو أن النص الواقعي يحتوي على قصة وحبكة ومضمون محددين بينما يفتقد النص الافتراضي لهذه العناصر، ويخلص الكاتب إلى أن علم الأفكار ليس علماً جديداً، بل هو أصل العلوم، وعلى هذا الأساس تتخذ السوبر حداثة قيمتها كونها محاولة إنشاء ما هو جديد فالطريقة الفضلى لمواجهة تكاثر المعلومات واجتياحها هي أن ندرسها، ونقيم فكراً جديداً، بدل أن نكون متلقين لفكر الآخرين.
و في كتابه (السوبر معلوماتية) يتناول بعضاً من أنواع الأدب التي تعبر عن الفكر المستحيل، فالتصوف –كما يرى- ممتلئ بالعبارات المتناقضة والمواقف المستحيلة ومثاله على ذلك أدب الحلاج الذي يراه تعبيراً شائقاً عن الفكر المستحيل والعوالم المستحيلة ، فالحلاج يبني الأكوان المستحيلة من خلال نصه :” اقتلوني يا ثقاتي/ إن في قتلي حياتي/ ومماتي في حياتي/ وحياتي في مماتي” فالشيء إما حي وإما ميت، وبذلك يستحيل أن يوجد موته في حياته، وحياته في موته. ولا يكتفي التصوف بوصف الأكوان المستحيلة بل هو يضيف أوصافاً ممكنة ومختلفة فهو كسائر ميادين الإبداع يضيف العوالم المستحيلة والعوالم الممكنة وكذلك يرى ميداناً إبداعياً آخر يعبر عن العوالم المستحيلة والعوالم الممكنة مستشهداً بقول جبران ” هل تحممت بعطر/ وتنشفت بنور/ وشربت الفجر خمراً/ في كؤوس من أثير” فمن المستحيل أن يستحم الفرد بالعطر ويتنشف بالنور ويشرب الفجر خمراً. هكذا يصور الشعر الأكوان المستحيلة، ليصل إلى نسبية المستحيل والممكن، فما هو مستحيل بالنسبة إلى نظرية ما أو نظام مفاهيمي معين، قد يكون ممكناً بالنسبة إلى نظرية معينة ومستحيلاً بالنسبة إلى نظرية أخرى، فما هو ممكن بالنسبة إلى نظام فكري معين قد يكون مستحيلاً بالنسبة إلى نظام آخر. ومن هنا نراه يؤكد على العلاقات الرياضية التي تحكم العالم في (السوبر مثالية) ، هذه العلاقات التي يتشكل العالم على أساسها بدلاً من العلاقات السببية أو الشرطية أو الجدلية، فالعلاقة الجدلية تعود إلى التراث اليوناني ونظر إليها “هيغل وماركس وغيرهما”، والسوبر مثالية تحاول أن تقدم ما هو جديد من خلال ربط الأشياء والظواهر والحقائق والمفاهيم على ضوء معادلات رياضية مختلفة، فبدلاً أن يكون هدف الفلسفة تحليل المفاهيم والظواهر تغدو وظيفة الفلسفة تقديم الرابط الرياضي بينها. ولهذا أساس علمي وهو أن الرياضيات لغة الفيزياء، والقوانين الفيزيائية مكتوبة بلغة الرياضيات، من هنا، فمن الطبيعي أن تحكم المعادلات الرياضية الحقائق كافة. والمثالية كما يراها في العقل الذي يحدد الوقائع الممكنة والأكوان الممكنة. وتعتبر المثالية أن الكون يعتمد في وجوده وتشكله على العقل فقط، لكن السوبر مثالية: تقول: إن الأكوان الممكنة تعتمد في وجودها وتشكلها على العقل. ويعود في السوبر مثالية إلى الحلاج في خطابه الصوفي المستحيل والممكن، المحدد واللامحدد، القريب والبعيد، الخير والشر، الغائب والحاضر، الكفر والإيمان، مشيراً إلى أن العمل الإبداعي كأي عمل آخر يحكمه المحدد واللامحدد معاً، ويبدو المحدد لديه في الممكنات بينما اللامحدد هو المستحيلات، معتبراً أن السوبر مثالية كمذهب فلسفي تلجأ إلى العلاقة الرياضية وتضعها في أساس العملية التفلسفية متخطية بذلك التركيز على العلاقات التي سادت في عصر التفلسف فهي تعتمد على النسق الرياضي في محاولة لتقديم كل ما هو جديد. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الباحث اختار العقل وحده لتحديد الأكوان الممكنة والمستحيلة، وعلاقة التحديد هذه لاتتضمن أن يغدو العقل والأكوان الممكنة والمستحيلة محددة، لأن التحديد المتبادل بينها هو تحديد مستمر إلى ما لا نهاية. وبذلك تبقى العقول والأكوان مالكة لعنصر اللامحدد فيها. وهذا بسبب لا نهائية ما يمكن أن يفكر فيه العقل.‏
إن طروحات حسن عجمي تثير الكثير من العصف الذهني وتدعونا لأسئلة مريبة حول أفكارنا ومناهجنا وقدرة الإنسان التفسيرية والحجج المعرفية التي يمكن بها التوافر على شروط القراءة. و طريقته في التعبير عن واقع المجتمع العربي، طريقة مبتكرة في التناول وخاصة، على الصعيد التراثي . ويمكننا القول: إن عملية اكتشاف مبحث اللغة في التاريخ أو الدخول إلى التراث من زاوية جديدة ظلت غائبة عن سماء الثقافة العربية، حتى جاء بعض المفكرين كنصر حامد أو زيد وعلي حرب، والآن حسن عجمي فأثروا ميدان الدراسات التراثية بهذا الأسلوب الجديد. وهذا الأمر يدعوني إلى التساؤل ، عن غياب هذا المبحث في ثقافتنا المعاصرة مع أنه موجود في تراثنا ، ولعلي أرى الإجابة فيما يصدره ويصنعه الغرب من أمور معرفية سرعان ما تتلاقفها الثقافة العربية ويعتبر هذا التلاقف موضة الكتابة العربية فمن الديكارتية إلى الماركسية إلى الإبستمولوجية إلى التفكيكية والآن الألسنية.
‏باختصار نحن مستهلكين للثقافة الغربية ، فهل انتهى البحث المعرفي والفلسفي ولم يعد هناك ما يضاف إليه، أو أننا ننتظر الغرب حتى يعطينا الملائم للبحث في تراثنا ، إذا كنا نفكر بهذا المنطق فإننا لن نكون قادرين على صنع ثقافة فاعلة وحقيقية قادرة على أن تفرض نفسها بين ثقافات العالم.‏

عزيزة السبيني‏

جريدة الاسبوع الادبي العدد 1086