الجمعة، 20 مارس 2009

النظرية الأكثر صحة هي النظرية الأكثر جمالاً


النظرية الأكثر صحة هي النظرية الأكثر جمالاً


حسن عجمي

نعرض في هذا المقال صراع بعض النظريات العلمية وبحث الفلاسفة والعلماء عن معنى الحقيقة وارتباطها بالجمال. والأسئلة الأساسية التي نحاول الإجابة عليها هي: هل الجمال معيار العلم؟ لماذا تتصف الحقيقة بالجمال؟ وما هو الجمال/ لكن شعوباً كشعوبنا التي ترفض العلم والعقل والمنطق ترفض أيضاً الجمال وتبقى في قبح يقينياتها الكاذبة.
تختلف النظريات العلمية وتتصارع. نرصد هنا نظريتين علميتين متنافستين هما نظرية التضخم والنظرية الدورية. لقد عبر الفيزيائي الن غوث عن نظرية التضخم بقوله إن الكون البدائي قد تضخم بشكل هائل في مدة زمنية قصيرة جداً ما جعل الكون منسجماً ومسطحاً. هكذا تفسر نظرية التضخم لماذا الكون منسجم ومسطح. أما الفيزيائيان بول ستينهردت ونيل طورق فيعبران عن النظرية الدورية على النحو التالي: ثمة غشاءان يصطدم أحدهما بالآخر بشكل مستمر وفي فترات زمنية متباعدة. وكل اصطدام بينهما هو انفجار عظيم ينشأ الكون من خلاله، وبذلك يتكون الوجود من دورات متكررة من انفجارات عظمى عديدة تؤدي الى لا نهاية. هكذا الكون أزلي فلا بداية ولا نهاية للوجود. الآن، بما أن الغشاءين يتصادمات لينشأ العالم الذي نعرفه، فمن الطبيعي أن يكون الكون مسطحاً ومنسجماً. هكذا تفسر النظرية الدورية لماذا الكون مسطح ومنسجم وتنجح في ذلك تماماً كما تنجح نظرية التضخم(DOUBLEDAY PAUL STEINHARDT AND NEIL TUROK: ENDLESS UNIVERSE. 2007). لكن بما أن النظريتين نظرية التضخم والنظرية الدورية ناجحتان، فما هو المعيار الذي يمكننا من الحكم على أي واحدة منهما هي النظرية الصادقة؟ الأدلة العلمية تشير الى صدقهما معاً، لكنهما تناقضان إحداهما الأخرى، وبذلك لا بد من اختيار نظرية واحدة منهما. من هنا، هل النظرية الأجمل من بينهما هي النظرية الأصدق؟ أي هل الجمال هو الذي يدلنا على الحقيقة؟ فبعد أن تضاربت الأدلة العلمية يغدو البحث عن الجمال كمعيار للعلم والحقيقة بحثاً موضوعياً.بالإضافة الى ذلك، تتنوع نظريات الحقيقة والواقع وتختلف. فمثلاً يقول نيتشه: "لا توجد حقائق، بل فقط تفاسير". ويضيف: "الحقائق أوهام نسينا اأنها أوهام". ويختصر نيتشه فلسفة ما بعد الحداثة في قوله إن "الحقيقة نوع من الخطأ من دونه لا تحيا بعض الأجناس الحيوانية الحية". هكذا يكون نيتشه أبو ما بعد الحداثة. فبالنسبة الى ما بعد الحداثة، لا يوجد خيط فاصل بين الحقيقي وغير الحقيقي، بل كل شيء نسبي. يعتبر هذا النموذج الفكري أننا
مسجونون في منطق أو آخر ويستحيل علينا الخروج من جلودنا وأفكارنا كي نرى العالم كما هو. على هذا الأساس يقول الفيلسوف البراغماتي وليم جيمسك "من الصعب جداً أن نجد الواقع مستقلاً عن التفكير الإنساني". وهذا ما يؤكد عليه الفيلسوف البراغماتي المعاصر رورتي حين يدافع عن المبدأ التالي: "لا توجد طريقة على ضوئها يوجد الكون من دون وصف معين للكون". وهذا يعني أن الواقع يعتمد في وجوده وتشكله على ما نفكر فيه؛ فالكون والوجود غير منفصلين عن العقل وفكره. لقد امتد هذا الموقف الى العلوم حيث يؤكد الفيزيائي ويلر أن الوعي يشكل الواقع على أساس ما تقوله ميكانيكا الكم. بالنسبة الى ميكانيكا الكم هذه، من غير المحدد ما إذا كان الجسيم جسيماً أم موجة. لكن متى نظرنا اليه وأدركناه يغدو إما جسيماً وإما موجة. هكذا الوعي يبني الكون ما يجعل الوجود معتمداً على الفكر وبذلك باختلاف الفكر يختلف الواقع فتزول بذلك الحقيقة المطلقة، كما يزول اليقين. هذا ما عبر عنه رورتي قائلاً: إن من المستحيل الخروج من معتقداتنا ولغتنا كي نحكم على ما هو الصادق في الواقع باستقلال عما نعتقد وكيف نتكلم. وقد عبر عن ذلك الفيلسوف دريدا قائلاً إنه لا يوجد شيء خارج النص. أما فلسفة الحداثة فتعتبر أن الواقع مستقل عن العقل والتفكير وأن من الممكن معرفة العالم كما هو؛ فالحقيقة غير نسبية (SIMON BLACKBURN: TRUTH.2006.PENGUIN BOOKS).
لكن من الممكن دوماً الخروج عما هو سائد واعتبار أن الحقيقة هي الجمال. وهذا ما عبر عنه الشاعر كيتز KEATS حين قال: "الجمال هو الحقيقة، والحقيقة هي الجمال، هذا كل ما تعرف وكل ما تحتاج أن تعرف". من هذا المنطلق يؤكد العديد من العلماء على أن الجمال معيار العلم؛ فالنظرية العلمية المقبولة هي التي تتصف بالجمال. ومفهوم الجمال يتضمن مفاهيم عدة منها الانسجام بين أجزاء العمل العلمي أو الفني ومنها بساطة التعبير العلمي والفني رغم عمقه. هكذا تتفق العلوم مع الفنون؛ فكل من العلم والفن يسعى الى الجمال كما أكد الفيزيائي شندرسكار الذي حاز على جائزة نوبل لدراسته حول نشوء النجوم وتطورها. ويعبر الفيزيائي هيزنبرغ عن الموقف نفسه قائلاً إذا هدتنا الطبيعة الى نظريات علمية ورياضية بسيطة ومتجانسة وجميلة لا نستطيع سوى أن نعتبر أنها صادقة. أما عالم الرياضيات هاردي HARDY فيقول إن عالم الرياضيات صانع أنساق فكرية وإن الجدية والجمال هما المعياران للحكم عن تلك الأنساق. كما أن الفيزيائي
وينبرغ WEINBERG يؤكد على أهمية الجمال في النظريات الفيزيائية. بالنسبة الى وينبرغ، الجمال يساعد الفيزيائيين في بناء نظرياتهم العلمية كما في الحكم على صدقها؛ فالنظرية الأجمل هي النظرية الأصدق. والفيزيائي لي سمولن لا يختلف عن زملائه حين يقول إن الفيزيائيين كالفنانين يبنون بناءات إذا نجحت تعبر عن الواقع لكنها مجرد نتاج الخيال الإنساني، كما أن الجمال يحكم العمل الفني كذلك يحكم الجمال العلم ونظرياته. وما زال العلماء يبحثون عن النظرية الصادقة في الكون. لكن هذا ما يقوله الفيزيائي ويلر WHEELER عنها: عندما نجدها ستكون بسيطة وجذابة وجميلة للغاية (MODERN SCIENCE WRITING.2008.OXFORS UNIVERSITY PRESS RICHARD DAWKINS).

هكذا يكون الجمال معيار العلم وأساسه تماماً كما أن الجمال معيار الفنون والآداب وأساسها. من هنا لا فرق جذرياً بين العلوم والفنون والآداب، ومن هنا أيضاً تشكل العلوم والفنون والآداب حقلاً إبداعياً واحداً لا يتجزأ. الشعوب المتطورة في العلم متطورة في الأدب والفن والعكس صحيح، والشعوب المتخلفة في العلم متخلفة في الأدب والفن والعكس صحيح أيضاً. لكن لماذا لا يوجد فرق جذري بين العلوم والفنون والآداب؟ تجيب السوبر حداثة قائلة إن من غير المحدد ما هو العلم والفن والأدب ولذا من الطبيعي أن لا يوجد فرق جذري بينها. هكذا تكتسب السوبر حداثة قدرتها التفسيرية.
بالنسبة الى العلماء، الجمال متحالف مع الحقيقة ومتحد معها في الواقع الذي ينتظر اكتشافه. فمثلاً، الفيزيائي غراهام فرميلو GRAHAM FARMELO يصر على أن المعادلات العلمية جميلة تماما كالعمل الفني. وعندما سئل الفيزيائي بول ديريك PAUL DIRAC أن يلخص فلسفته كتب على اللوح: "القوانين الفيزيائية لا بد أن تملك جمالاً رياضياً (SIAN EDE: ART&SCIENCE). هكذا تتحد الفلسفة والعلم والفنون في حقل واحد هو حقل الإنسانية؛ فالأعمال الفلسفية والعلمية والأدبية والفنية مصدرها الآليات العقلية ذاتها. من جهة أخرى، العلم فن بالفعل بينما الفن علم بالقوة. فمثلاً بعض العلماء يعتبرون أن الصور العلمية لعالم المجرات والنجوم عالم ما دون الذرة هي نوع جديد من الفن الجمالي المجرد.لكن إذا كان الجمال هو الحقيقة والحقيقة هي الجمال بمعنى أن هويتهما واحدة، فما هو الجمال؟ تنقسم فلسفة الجمال الى مذهبين أساسيين هما المذهب الواقعي والمذهب اللاواقعي. بالنسبة الى المذهب الواقعي، الجمال يتكون من صفات موضوعية
كالانسجام والبساطة القائمة في ذات الأشياء أو الأعمال. أما بالنسبة الى المذهب اللاواقعي، فالجمال يتشكل من صفات ذاتية غير موضوعية وكامنة في ذات المتلقي. فيحلل المذهب اللاواقعي الجمال من خلال تأثيره على الإنسان وشعوره كأن يكون الجمال هو الذي يثير الدهشة والاعجاب. لكن من الممكن الخروج عن التقليد الفلسفي واعتماد السوبر حداثة التي تعتبر أن من غير المحدد ما هو الجمال. ولهذا الموقف قدرته التفسيرية. فمثلاً، بما أن من غير المحدد ما هو الجمال، إذن من الطبيعي أن يمتلك الجمال صفات موضوعية متعلقة بالأشياء والأعمال وصفات ذاتية متعلقة بالإنسان ونظرته وشعوره، كما من الطبيعي أن تختلف نظرياتنا في الجمال وتقييمنا لما هو جميل. وبما أنه من غير المحدد ما هو الجمال، فمن المتوقع أن يتجسد الجمال في الأعمال الفنية والعلمية معاً وأن يكون أساساً للعلم كما هو أساس الفن والأدب والشعر. هكذا تفسر السوبر حداثة الحقائق السابقة. فالجمال غير محدد كما الحقيقة غير محددة. ولذا تنجح النظريات العلمية المختلفة في تفسير الحقائق رغم تعارضها تماماً كما تنجح في الأعمال الأدبية والفنية رغم تعارضها واختلافها.
أخيراً، كان للاعتبار الجمالي دور في رفض اينشتاين للنظريات العلمية السائدة وإبداعه لنظريته العلمية الخاصة. فبما أن تلك النظريات مفتقرة الى الجمال، وبما أن الفيزياء لا بد أن تعبر عن جمالية الطبيعية، لا بد من رفض تلك النظريات السائدة واستبدالها بنظرية علمية جميلة. هكذا فكر اينشتاين وأكد على جمالية نظريته حين قال: كل من يفهم النظرية النسبية لن ينجو من جمالها الساحر، على هذا الأساس، أصبح الجمال عصب العلم وقلبه النابض، ما دعا الفيزيائي ميشيو كاكو الى أن يرى معادلات الفيزياء كأنها قصائد الطبيعة؛ فبالنسبة الى كاكو المعدلات الفيزيائية الأجمل هي التي تعبر حقاً عن الطبيعة. وهذا ما أكده أيضاً الفيزيائي ريتشارد فاينمن RICHARS FEYNMAN حين قال إننا نتمكن من معرفة الحقيقة من خلال جمالها وبساطتها (MICHIO KAKU HYPERSPACE.1994.OXFORS UNIVERSITY PRESS). لكن ما الذي يجعل الحقيقة تتصف بالجمال؟ تجيب السوبر حداثة، على النحو التالي: بما أن الحقيقة غير محددة، إذن للحقيقة مستويات عديدة ومختلفة من المعاني والدلالات والمقاصد، وبذلك تدهشنا دوماً وتثير اعجابنا. هكذا تفسر السوبر حداثة لماذا الحقيقة تتصف بالجمال. ولأن الحقيقة غير محددة تماماً كالجمال يصوغهما الإنسان على ضوء لا يقينه فتتنوع النظريات وتختلف. الإنسان صانع الحقيقة والجمال ومصنوعهما.