الاثنين، 23 مارس 2009

نظريات المعرفة وصراعها


الفلاسفة غيتر ووليمسون وكوين:

نظريات المعرفة وصراعها



حسن عجمي

تتنوع نظريات المعرفة وتختلف، وما زال الصراع قائماً بين الفلاسفة حول ما هي المعرفة. نعرض هنا بعض النظريات الأساسية في المعرفة ومعالم نجاحها وفشلها.
يبدأ تاريخ فلسفة المعرفة بتحليل افلاطون للمعرفة وهو التالي: المعرفة هي اعتقاد صادق مبرهن عليه. هذا يعني مثلاً اننا نعرف ان الأرض تدور حول الشمس. اذاً، وفقط اذاً، كانت الأرض تدور حول الشمس، ونحن نعتقد ذلك ولدينا برهان أو براهين على صدق اعتقادنا هذا لكن الفلسفة المعاصرة اظهرت فشل هذا التحليل التقليدي للمعرفة، واشتهر الفيلسوف غيتر بنقده له. من الممكن تقديم نقده على النحو التالي: لنتصور اننا ننظر الى ساعة الجامعة فنرى انها تشير الى ان الوقت هو الواحدة ظهراً، كما لدينا برهان على صدق اعتقادنا بأن الوقت هو الواحدة ظهراً لاننا كنا نعتمد على تلك الساعة في معرفة الوقت وكانت تلك الساعة تشير دائماً الى الوقت الصحيح لكن الحقيقة هي ان تلك الساعة معطلة، وقد تعطلت البارحة حين كانت تشير الى الواحدة ظهراً وانها مجرد صدفة اننا اليوم نظرنا الى تلك الساعة حين كان الوقت حقاً الواحدة ظهراً. بما ان تلك الساعة معطلة، اذن نحن لا نعرف انها الواحدة ظهراً؛ فمجرد الصدفة جعلتنا ننظر الى تلك الساعة حين الوقت كان حقاً الواحدة ظهراً وبالصدفة فقط توقفت البارحة تلك الساعة مشيرة الى الواحدة ظهراً. على هذا الاساس لدينا اعتقاد صادق مبرهن عليه لكن ليس لدينا معرفة؛ فالوقت هو الواحدة ظهراً ونعتقد ولدينا برهان عليه لكننا لا نعرف انها الواحدة ظهراً لأننا اعتمدنا في ذلك على ساعة معطلة . هكذا يظهر غيتر خطأ تحليل المعرفة على انها مجرد اعتقاد صادق مبرهن عليه (John:Pollock: Contemporary Theories of Knowledge 1986. Rowman &Littlefield Publishers).
كما تحتشد نظريات أخرى في المعرفة عبر التاريخ منها نظرية الانسجام التي تقول إن معتقدنا يشكل معرفة متى انسجم مع معتقداتنا الأخرى كافة. هكذا يكون النظام الفكري الذي يكون معرفة هو النظام الحاوي على معتقدات منسجمة في ما بينها. لكن المشكلة الأساسية لهذا المذهب كامنة في أن من الممكن ان تنسجم معتقداتنا في ما بينها من دون أن تنجح في التعبير عن الواقع، وبذلك لا تشكل معتقداتنا حينها معرفة حقة. ومشكلة أخرى تواجه هذا الموقف هي أن من الممكن وجود أنظمة فكرية مختلفة ومتعارضة في ما بينها رغم ان كل نظام منها منسجم ذاتياً. مثل ذلك ان نظرية النسبية لأينشتاين منسجمة أفكارها فيما بينها لكنها تعارض وتناقض نظرية ميكانيا الكم المنسجمة الأفكار ايضاً. وبذلك يستجيل على ضوء الانسجام الفكري فقط ان نتمكن من الحكم على أية نظرية او نظام فكري هو الذي يشكل معرفة حقاً دون نظام فكري آخر. ومن النظريات الأخرى التى طرحها الفلاسفة نظرية الأسس في المعرفة التي تقول إنه يوجد بعض المعتقدات الأساسية التي لا تحتاج الى برهنة لأنها بديهية، وعلى ضوء تلك المعتقدات تتم البرهنة على المعتدات الأخرى ويتم تشكيل المعرفة. لكن المشكلة الأساسية التي تواجه هذا المذهب قائمة في أن لا يوجد معيار على اساسه ننجح في اختيار ما هو بديهي وأساسي من المعتدات؛ فما هو بديهي بالنسبة لذا الفرد قد لا يكون كذلك بالنسبة الى فرد آخر (المرجع السابق).
من مذاهب المعرفة أيضاً مذهب يدعي ان الاتفاق على قبول معتقد ما يجعله معرفة وعلى اساسه تتم البرهنة على المعتقدات الأخرى واكتسابنا للمعرفة. ومشكلة هذا المذهب انه لا يوجد ضامن يضمن ان مجرد اتفاقنا على معتقد معين يجعل هذا المعتقد معرفة حقة؛ فقد تتفق على ما هو كاذب بشكل دائم ومستمر. ولقد تطورت فلسفة المعرفة فنشأت النظرية السببية في المعرفة ومفادها التالي: معتقداتنا تشكل معرفة متى كانت مسببة من قبل الوقائع في العالم. وهذا يعني اننا نعرف ان الارض تدور حول الشمس اذاً وفقط اذاً كنا نعتقد بذلك، وفعلاً الارض تدور حول الشمس، ودورانها هذا هو سبب اعتقادنا بأنها تدور حول الشمس.
هكذا نضمن ارتباط ما نعتقد بما هو في الواقع فنضمن المعرفة كما يزعم أصحاب هذه النظرية. لكن مشكلة هذه النظرية هي انه لا يوجد ما يضمن ان العلاقات السببية تستلزم تحقيق المعرفة، فقد تكون العلاقة السببية بيننا وبين العالم مسببة لمعتقدات كاذبة عن العالم ولذا اكتسبت الانسانية معتقدات خاطئة كثيرةعبر تاريخها وقد نكون مجرد متوهمين بأن ثمة عالماً مرتبطاً بنا سببياً. بالاضافة الى ذلك، ثمة مذهب في المعرفة ينفي حصولها أصلاً وهو المذهب الشكي الذي يؤكد على التالي: من الممكن أن نكون في مجرد حلم فكل ما نرى ونسمع ونعتقد ليس سوى احداث في حلم أو كابوس لعين، وبذلك يستحيل علينا ان نتأكد من حصولنا على اية معرفة. فحكل دليل أو متعقد قد يكون مجرد حلم اخترعناه في نومنا السرمدي او اغوانا به الشيطان. ومشكلة المذهب الشكي في انه يوقف البحث عن المعارف على نقيض مما نسعى اليه، ومشكلته ايضاً انه يطالبنا بمعرفة يقينية لكننا لا نحتاج اليها بل قد نكتفي بمعرفة على الأرجح ان تكون صادقة أو من الممكن أن تكون صادقة (المرجع السابق).
أما الفيلسوف وليمسون فيقلب المعادلة الفلسفية التقليدية ويعتبر ان المعرفة مفهوم أولي لا يحتاج الى تحليل بل من خلاله لا بد من تحليل المفاهيم الأخرى. مثل ذلك ان المعرفة هي التي تبرهن على المعتقدات بدلاً من ان تكون التي لا بد ان يبرهن عليها. ودليله على ذلك اننا اذا طولبنا بالبرهنة على صدق كل اعتقاد لدينا فسوف تتسلسل عملية البرهنة الى ما لا نهاية. من هنا لا بد ان تتوقف عملية البرهنة عند المعرفة، وبذلك نحل مشكلة التسلسل اللانهائي لعملية البرهنة. من هنا يستنتج وليمسون صدق موقفه؛ فبما ان سلسلة البرهنة لا بد أن تتوقف، ولنا الحق في ايقافها عند ما نعلم، اذن المعرفة تسبق عملية البرهنة ولا تحتاج الى برهنة بل من خلالها تتم البرهنة على المعتقدات الأخرى، كما يطبق وليمسون فلسفته على النطق ومتي ينبغي ان ننطق بعبارة أو أخرى. بالنسبة اليه، لا بد ان ننطق بعبارة ما فقط إذا كنا نعرف ان تلك العبارة صادقة. هكذا يتم تحليل ضرورة وإمكانية النطق بالعبارات من خلال المعرفة التي تغدو هي الاساس في تحليل المفاهيم. فالمعرفة هنا تعبر عن ممارساتنا لعمليات النطق. من المنطلق ذاته، لا بد ان نعتقد بمعتقد ما فقظ اذا كنا نعرف انه معتقد صادقأو ان بعض ما نعرف يبرهن على صدق ذاك المعتقد. هكذا يتم تحليل الاعتقاد من خلال المعرفة كما يتم تحليل البرهنة بالضبط؛ فمجموع ادلتنا على صدق معتقد معين هو مجرد مجموع معارفنا. من هنا يعرف وليمسون مفاهيم النطق والاعتقاد والبرهنة من خلال المعرفة على نقيض مما كان يفعل الفلاسفة قبله (Timothy Wiliamson: Knowledge and its Limits.2000.Oxford University Press).
لكن المشكلة الأساسية التي قد تواجه هذا الاتجاه الفلسفي هي انه يسلم بأن لدينا معرفة وعلى ضوء ذلك يحلل المفاهيم الأخرى من خلال المعرفة، بينما المطلوب هو البرهنة على اننا نملك معرفة، وبذلك يقع موقف وليمسون في المصادرة على المطلوب الا وهو التسليم مسبقاً بما هو مطلوب ان نبرهن عليه.لكن هل لدينا معرفة ام لا؟ تتنوع الاجابات الفلسفية المعارضة للموقف الشكي ومنها نظرية الفيلسوف كوين المعتمدة على النظرية الداروينية. بالنسبة الى كوين، نملك معرفة لأننا ان كنا لا نملك معرفة لن نتمكن من البقاء احياء. مثل ذلك اذا لم نكن نعرف ما يفيدنا وما يضرنا ما كنا وما كانت البشرية لتنجح في الاستمرار على قيد الحياة في ظروف الصراع الدامي بين الكائنات الحية فيما بينها من جهة وبينها وبين الطبيعة من حولها من جهة اخرى. (Quine: Ontological Relativity&Other essays.1969 Columbia University press).
لكن من الممكن تفسير بقاء الجنس البشري واستمراريته من خلال حصوله على المعتقدات المفيدة في البقاء بدلا من خلال الاصرار على ان الانسان يملك معرفة. مثل ذلك ان الانسان ينجح في الاستمرار على قيد الحياة لأن لديه معتقدات مفيدة في تجنب الضرر والاقبال على المفيد لبقائه. من هنا قد لا نحتاج الى ادعاء ان الانسان لديه معرفة بالعالم لكي نفسر استمراريته في الحياة. كل هذا يرينا ان لدينا نظريتين متعارضتين: نظرية تقول اننا احياء لأن لدينا معرفة، ونظرية اخرى تقول اننا احياء لأننا نملك معتقدات مفيدة. وبذلك تنجح كل من النظريتين في تفسير استمرارية الجنس البشري، وبذلك تكون لكل نظرية منهما قدرة تفسيرية متساوية مع النظرية الأخرى ما يجعلنا غير قادرين على الحكم على اية نظرية منهما هي النظرية الأصدق.
من هنا من غير المحدد اذن اية نظرية منهما هي النظرية الصادقة ما يعني انه من غير المحدد ما اذا كنا نملك معرفة ان لا كما تدعي السبر حداثة بالضبظ, وبما انه من غير المحدد ما اذا كنا نملك معرفة ام لا كما تدعي السوبر حداثة بالضبط. وبما انه من غير المحدد ما اذا كنا نملك معرفة ام لا، فمن الطبيعي اذن ان يستمر الصراع حول ما اذا كانت لدينا معرفة ام لا. هكذا تنجح السوبر حداثة في تفسير استمرارية الصراع الفلسفي حول امكانية الحصول على المعرفة او عدم امكانية ذلك.رأينا ايضا تعرض نظريات المعرفة المختلفة الى مشاكل عدة، وتفسير ذلك يكمن في ان من غير المحدد ما هي المعرفة تماماً كما تقول السوبر حداثة. فيما ان من غير المحدد ما هي المعرفة، من الطبيعي اذن ان نفشل في تقديم تحليل وتعريف صادق للمعرفة. هكذا لا محددية المعرفة تكتسب قدرتها التفسيرية فمقبوليتها. من جهة اخرى، نجد ان النظريات العلمية تعارض بعضها البعض، فمثلا تعتبر نظرية النسبية لأينشتاين ان الكون حتمي بينما تعتبر نظرية ميكانيكا الكم ان الكون غير حتمي. لكن العلم يشكل معرفة كما نفترض.
من هنا تقدم العلوم معارف متعارضة في ما بينها، ولذا من غير المحدد ما هي المعرفة. مثل ذلك انه من غير المحدد ما اذا كانت نظرية النسبية لأينشتاين هي التي تكون معرفة ام ان نظرية ميكانيكا الكم هي التي تشكل معرفة. بالاضافة الى ذلك، تقول ميكانيكا الكم ان من غير المحدد ما اذا كانت قطة شرودنغر حية ام ميتة. ولهذا المبدأ تفاسير عدة ومختلفة منها انه يوجد عالمان: عالم حيث قطة شرودنغر حية وعالم آخر حيث القطة نفسها ميتة. وتفسير آخر هو ان الوعي يشكل الكون، فقط اذا نظرنا الى قطة شرودنغر سوف ندرك انها اما حية واما ميتة وحينها فقط تكون تلك القطة اما حية واما ميتة. هكذا من غير المحدد مضمون مبدأ ميكانيكا الكم، فهل هو التفسير الاول ام الثاني؟ من هنا عندما نعرف ان من غير المحدد ما اذا كانت قطة شرودنغر حية ام ميتة، فنحن لا نعرف مضمون معرفتنا هذه، وبذلك من غير المحدد ما هي المعرفة. بكلام آخر، من غير المحدد ما نعرف، ولذا لدينا نظريات علمية متعارضة ولذا ايضا مضامين معرفتنا مضامين غير محددة المعاني والدلالات.