الجمعة، 12 يونيو 2009

صراع المذاهب الفلسفية



لماذا ينجح العلم في تفسير الكون؟

صراع المذاهب الفلسفية


حسن عجمي

يرتحل هذا المقال إلى عوالم فلسفة العلوم ليسأل سؤالها الإنساني: لماذا تنجح النظريات العلمية في تفسير الكون؟ تتنوع المدارس الفلسفية في الإجابة عن هذا السؤال وتتنافس. فالصراع ماهية الفلسفة والعلم ، لكنه صراع اخلاقي يقوده البحث الدائم عن الحقيقة.
نسأل فلسفة العلوم سؤلاً محورياً هو: لماذا النظريات المعاصرة كنظريات الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا ... ناجحة في تفسير الظواهر الطبيعية والتنبؤ بها ؟
تختلف المذاهب الفلسفية في إجاباتها فتنقسم فلسفة العلوم إلى مذهبين أساسيين هما المذهب الواقعي والمذهب اللاواقعي ( ليس بالمعنى السلبي). يفسر المذهب الواقعي نجاح النظريات العلمية من خلال صدقها أي مطابقتها للواقع. فيقول هذا المذهب ان النظريات العلمية المعاصرة ناجحة في تفسير الكون لأنها صادقة أي مطابقة للواقع. يقدم الفيلسوف ريتشارد بويد الحجة الأساسية للمذهب الواقعي على النحو التالي: التفسير الوحيد لنجاح النظريات العلمية هو أنها صادقة. فلو أنها ليست صادقة رغم نجاحها في تفسير الظواهر الطبيعية لا يستلزم ذلك معجزة ما بفضلها تغدو النظريات العلمية ناجحة في تفسير العالم رغم صدقها. فعدم صدق النظريات العلمية يستدعي عدم نجاحها في التفسير والتنبؤ بالظواهر الطبيعية،لذا نجاح العلم يشير بقوة إلى صدق نظرياته،فبفضل صدقها تنجح. فاذا كانت النظريات العلمية ليست صادقة،فسيكون من المستغرب حينها لماذا تنجح. من هنا التفسير الوحيد والأفضل لنجاح النظريات العلمية المعاصرة هو أنها نظريات صادقة.


Editors: Richard Boyd, Philip Gasper, J.D. Trout: The Philosophy of Science. 1991. MIT Press.

لكن المذهب اللاواقعي يعترض على هذا التفسير، ويقدم حججا عدة ضد الاتجاه الواقعي منها: يرينا تاريخ العلوم أن النظريات العلمية تستبدل بنظريات أخرى،فمثلا تم استبدال نظرية نيوتن بنظرية اينشتاين. وبما ان النظريات العلمية تستبدل بنظريات علمية أخرى، إذن النظريات العلمية ليست صادقة فلا تطابق الواقع وإلا ما كانت لتستبدل بأخرى. كما ان نظرية نيوتن ناجحة في تفسير العديد من الظواهر،لكنها كاذبة كما أظهر العلم المعاصر. وبذلك نجاح النظرية لا يستلزم صدقها. ولو أن كل نظرية صادقة،لكانت لكانت نظرية النسبية لاينشتاين ونظرية ميكانيكا الكم صادقتين لنجاحهما. لكنهما تناقضان بعضها البعض،وبذلك يستحيل صدقهما معاً. من هنا نجاح النظرية العلمية لا يستلزم صدقها. على أساس كل هذا يستنتج المذهب اللاواقعي أن النظريات العلمية ليست صادقة ولا كاذبة، بل هي فقط مقبولة من جراء نجاحها. فالنظريات العلمية مجرد أدوات لتفسير الظواهر الطبيعية والتنبؤ بها (المرجع السابق).
بالاضافة الى ذلك تتشعب المذاهب ضمن المذهب اللاواقعي في محاولاتها تفسير نجاح النظريات العلمية من دون الاعتماد على القول بأنها نظريات صادقة. مثل ذلك التفسير الذي يقدمه الفيلسوف (توماس كون) ألا وهو التالي: النظرية العلمية تحدد موضوع العلم والمشاكل العلمية وكيفية حلها والمعاير التي من خلالها نستطيع بحق أن نبرهن صدق أو كذب الأقوال كما تحدد ماهي حقائق الكون ولا تستطيع أن ترى العالم سوى من منظورها، وبذلك من الصعب تكذيبها من منطلق نظرية أخرى. لذا من الطبيعي أن تنجح النظرية العلمية في تفسير الكون ووصفه بما أنها المرجع الوحيد للحكم العلمي فتختار المشاكل التي من الممكن تحلها و إذا تعرضت إلى مشكلة لا حل لها يتم تعديل النظرية لتتمكن من حلها. هكذا يفسر (كون) نجاح النظريات العلمية.


Thomas Kuhn: The Structure of Scientific Revolutions. 1970. The University of Chicago Press.

أما الفيلسوف فان فراسن فيفسر نجاح العلوم بطريقة أخرى وهي: تحيا النظريات العلمية في صراع دام فيما بينها،وفقط الأنجح منها يبقى ويستمر لكونه الأنجح. هكذا النظريات العلمية محكومة بالانتقاء الطبيعي. فكما أن الانتقاء الطبيعي الدارويني يختار الأفضل والأنجح من الكائنات الحية فيبقيها في الوجود،كذلك الانتقاء الطبيعي يختار الأفضل والأنجح من النظريات العلمية فيبقيها. ولذا النظريات العلمية المعاصرة ناجحة في تفسير الكون والتنبؤ بظواهره.
-Van Fraassen: The scientific Image. 1980. Oxford University Press.

يواجه المذهب اللاواقعي مشكلة أساسية هي: بالنسبة إلى (كون)، النظرية العلمية تحدد المشاكل التي لابد من حلها، وبذلك من الطبيعي أن تختار المشاكل التي تتمكن من حلها،وإن لم تستطع يتم تعديل النظرية لتنجح في حلولها،ومن هنا من الطبيعي أن تنجح النظريات العلمية من منظور الفيلسوف (كون). لكن من الممكن أن تكون كل المشاكل غير قابلة للحل فيستحيل تعديل النظرية لتتمكن من حلها ولا تتمكن أية نظرية من اختيار المشاكل التي لها حلول. وبذلك لا تفسر نظرية (كون) لماذا تنجح النظريات العلمية في حل المشاكل،فهي تسلم بأن المشاكل العلمية لها حلول بدلاً من أن تفسر لماذا لاتملك حلولاُ. من المنطلق ذاته،تتهاوى نظرية فان فراسن. بالنسبة إلى فان فراسن،النظريات العلمية ناجحة لأن فقط النظريات ناجحة،تبقى في الصراع الدارويني الدامي. لكن من الممكن ان تكون كل النظريات العلمية فاشلة فلا تبقى أية نظرية من جراء الصراع فيما بينها.
وبذلك لا تفسر نظرية فان فراسن لماذا تنجح النظريات العلمية،بل تسلم بأن بعض النظريات تملك صفات ناجحة وبذلك تتغلب على نظريات أخرى فاقدة تلك الصفات بدلاً من أن تفسر لماذا بعض النظريات تملك نجاحاتها.
حتى لو أننا سلمنا بأن النظريات العلمية تتصارع وفقط الأنجح منها يبقى،من الممكن أن تكون كل النظريات فاشلة،وبذلك لاتبقى أية نظرية لتكتسب صفة النجاح.
أخيراً تتمكن السوبر حداثة من الإجابة عن تساؤلنا،وذلك على النحو التالي: بالنسبة إلى السوبر حداثة،من غير المحدد ماهو الكون،لكن رغم لامحددية الكون من الممكن معرفته لأن من خلال لامحددية من الممكن تفسيره. على هذا الأساس،بما أن الكون غير محدد،إذن من الممكن أن نعبر عنه بنجاح من خلال لغات عدة مختلفة كلغة الفيزياء ولغة الكيمياء ولغة البيولوجيا ولغة الرياضيات إلخ. لذا من غير المستغرب أن تنجح العلوم في تفسير الكون ووصفه. هكذا تفسر السوبر حداثة نجاح النظريات العلمية.