الاثنين، 29 ديسمبر 2008

الســـــوبــر حـداثـــــة







السوبرحداثة



كان الفكر الجنائزي الذي انتجته الحداثة يعبر عن سرعة التغير والانتقال في كل مستويات العصر الحديث.. وهو اذ يقيم مأتمية النهايات-الموتات- فانه يعكس ازمة الحداثة الدورية ويبدي في نفس الوقت ما تعانيه بنيات الحداثة من تحول مستمر.. يقود الى تشكيل مرحلة ما بعد الحداثة ليس بصفتها قطعية ابستمولوجية فاصلة بين اطوار من الوجود والعدم..
بل باعتبارها نقداً لمفاهيم وثوابت الحداثة.. ومع ذلك لم يعد نقد الحداثة نكوصا عن العقل او إطفاء لاشعاعات التنوير ((بقدر ما هو انفتاح على المستبعد واللا معقول او على المتغير والمجهول، اي على كل ما نفته الحداثة من فضائها)) كما يقول المفكر علي حرب.وبالتالي فان الحداثة بانتاجاتها لأشكال العقلنة بطروحاتها العلمانية، وادوات المقاربة بادلجتها الاممية، وخطط التغيير بتهويماتها (الانسنية) ووسائل التعديل بجدلها التكنولوجي، لم تعد تجدي في فهم العالم. فاذا كانت الحداثة تعتمل في العالم تغييرا وتجديدا عدة قرون حتى تستنفد (نفسها او تبلغ.. مأزقها او تشهد انفجاراتها) فان ما بعد الحداثة التي تتصف (بالذاتية والتفكيكية والتعددية والاختلاف والعشوائية) لم تعمر الا عقودا قليلة حتى صارت اجوبتها غير وافية لما يطرح من اسئلة التغيير المتسارع.. فاذا كان تطور الفكر الانساني وما يستتبعه، يتطلب قرونا ثم اختزلت القرون الى عقود، فاننا امام عالم من الافكار المتحولة والتي ربما تحسب سرعة تغيرها بأقل ما يمكن من وحدات الزمن، لان مفعول هذه الافكار ليس عوالمنا الواقعية.. وانما تكون مفاعيلها في عوالم فكرية يجترحها الامكان ويغذيها الاحتمال بعيدا عن الاعتقاد النهائي او الايمان القبلي بله الصدق الواقعي، تلك هي المرحلة الفكرية الجديدة (السوبر حداثة) التي اجاد الكاتب العربي القدير حسن عجمي في كتابه القيم (السوبر حداثة-علم الافكار الممكنة) في تعريف مفهومها والتطرق الى مناهجها غير المحددة وبيان مدلولاتها والافصاح عن عوالمها الممكنة. وكما نرى فان ما طرحه الكاتب حول ظاهرة السوبر حداثة يعد افكارا ابكارا لم يتم تداولها في الاوساط الفكرية على نطاق واسع حسب علمنا.. لذلك ربما يستحق الكاتب ان نسجل له فضل السبق في هذا المضمار هذا بالاضافة الى اطروحاته الشيقة التي ينبض معها فكر المتلقي فضلا عن اسلوبه الذي يمكن ان يوضع في خانة (السهل الممتنع).عرفنا من قبل بأن الحداثة هي مذهب عقلي/ علمي تتغيا المعرفة.. وان ما بعد الحداثة هي مذهب ذاتي عدمي لاغائي. اما السوبر حداثة فهي ((المذهب الذي يستخدم مفاهيم ومناهج ما بعد الحداثة من اجل الوصول الى الهدف الاساسي للحداثة الا وهو المعرفة)) على حد تعبير حسن عجمي. اما علم الافكار الممكنة فهو جزء من السوبر حداثة.. وان موضوعه غير محدد بل يمكنه ان يدرس كل المذاهب الفكرية وفي كل الميادين الفكرية من فلسفة وعلم اجتماع وأدب واقتصاد ولغة.. الخ. لكن لعلم الافكار اشتراطاته التي تقضي بأن الافكار التي يمكن دراستها يجب ان لم تنشأ بعد.. يقوم علم الافكار على اساس مبدأ اللاحتمية ((اللا محدد)) المستخدم في تفسير ميكانيكا الكم..هذه النظرية تقوم على اساس ان مبدأ اللا محدد يحكم العالم ((من غير الممكن تحديد مكان الجسيم وسرعته في آن معاً)).. وللتخلص من هذا المأزق يطرح رأي يعتقد ان التحديد يكمن في الوعي الانساني فيما يرى اخرون نفي هوية مخصوصة للجسيمات. يتيح علم الافكار لمن يريد ان يطرح افكاره بغض النظر عن قناعته بها كذلك لا يتطلب الامر اكمال عدته الفكرية والمنهجية.. مما يتيح مجالاً ارحب للمساهمة في تخليق المعرفة واستغواء اكبر للانخراط في دروب البحث العلمي. ولعلم الافكار خاصية تخطي مذهب الشك بغض النظر عن صدقه.. طالما انه يرمي الى دراسة ما يمكن ان يكون صادقاُ. ومثلما يمكنه التنبؤ بالافكار اللاحقة فانه يمكن ان يفسر اسباب نشوء الافكار السابقة.ان علم الافكار يستغل المفهوم اللاحداثوي-اللا محدد- بغية الوصول الى المعرفة وهي هدف حداثوي.. فان فكرة اللا محدد يمكن ان تطبق على العلم كما في ميكانيكا الكم، كما طبقها كانط على العقل وهيجل على الوجود.. فان هذه يمكن ان تطبق في ميادين اخرى، مثلا في ميدان ((المعنى)) للوصول الى ان المعنى غير محدد كما عند كوين.. يعرف الاستاذ حسن عجمي اللا محدد على ((انه ليس سوى عدم وجود الزمان والمكان في عالم مادون الذرة)).. ويفترض تطبيق ذلك على العالم الذري-العالم الواقعي-فاذا فعلنا ذلك ربما ((نحصل على نظرية جديدة في الفيزياء)) لكنه يدع تلك المهمة للاخرين.. وبما ان كل شيء غير محدد فاذن لا يوجد منهج محدد لعلم الافكار.. فاذا كان المنهج التفكيكي يعمد الى تفكيك النصوص بغية كشف اللا معقول والمستبعد في النصوص فان منهج علم الافكار ((يقوم بتحديد الافكار التي من الممكن ان توجد او يفكر بها، اي يحدد العوالم الفكرية الممكنة)).. إذ مع كل عالم ممكن يراد دراسته يمكن استخدام منهج ما.وعن اسباب هيمنة الافكار المحددة على الفكر الانساني يقول حسن عجمي:((توجد عوالم ممكنة تتكون من الافكار الممكنة التي لم تفكر بها البشرية، ومن خلال حجبها او اقصائها حددت الافكار التي سيطرت على فكر البشرية)).. لكن من خلال الانفتاح على العوالم الممكنة بالتفكير الممكن يمكننا الانفتاح على ((المعتقدات الممكنة والمحتملة)) من دون ان نلزم انفسنا بسوق الادلة والبراهين كما نعمل في اعتقاداتنا الواقعية.. لان التفكير الممكن يحررنا من عبادة ((الاوثان الفكرية)) ويتيح الفرص امام الجميع فلاسفة وعلماء ومثقفين وغير مثقفين للهجرة الى العوالم الممكنة وهم متحررون من تابوهات الفكر القار والزامات العوالم الواقعية.. فالتفكير الممكن.. هو تفكير وحض على التفكير نحو التغيير والابداع في كل المجالات الممكنة وصولا الى المعرفة.. إذ انه ينقلك الى ميدان معرفي.. يؤمن لك الحكم على صدق النتائج والنظريات او كذبها بغض النظر عن افتقارك الى العدة المعرفية الكاملة التي لا يمكن ان يدعي احد بامتلاك ناصيتها.. طبعا على ان يكون حكمك الانف الذكر ليس نهائيا بل مفتوح وقابل للتجدد والتغيير والتحول. وعلم الافكار لا يرى بأساً باختلاف النظريات وتناقضها من غير ان نسقط في التناقض في النظرية الواحدة. لانه العلم الذي يقوم بدراسة النظريات الممكنة الصدق التي ربما تكون كاذبة في عالمنا الواقعي، يقول حسن عجمي (اذا دفعنا السوبر حداثة او علم الافكار الى اقصاه، تصبح مهمتنا ان نضع ما هو صادق او ما نعرفه بين مزدوجين ونتناساه، وان نبحث عما من الممكن ان يكون صادقا رغم كذبه في عالمنا. هذا هو المذهب الفلسفي الذي يدعو الى بناء النظريات الكاذبة. فتاريخ الفلسفات والعلوم تاريخ النظريات الكاذبة)).. بمعنى اخر ان السوبر حداثة او علم الافكار يشتغل بغية صناعة افكار مفهومية جديدة ممكنة الصدقية، من دون ان يكترث بصناعة حقائق مصداقية لأنها لا تقع في عوالم مفعولاته.

ضمد كاظم وسمي
جريدة الصباح العراقية