الاثنين، 29 ديسمبر 2008

حسن عجمي مستغرقاً في توليد المصطلحات المعرفية


يسعى هذان الكتابان الجديدان لحسن عجمي الصادران عن الدار العربية للعلوم، ,2008 الى اختراع وتوظيف مصطلحات ومفاهيم جديدة في حقول علوم المعرفة، من أجل تكييف اللغة العربية مع مستجدات البحث المعرفي ـ الفلسفي. إذ ان اللغة العربية تعاني غياب التوليد والاشتقاق في مفردات ومصطلحات البحث العلمي، مما أدى الى تأخير لغتنا عن اللاحق بقطار المعرفة المتسارع دائما نحو محطات بحثية جديدة. وفي هذا السياق يفتح هذان الكتابان، «الميزياء» و«البينياء» النوافذ المشرعة على عمليات التوليد والاشتقاق، وهو مشروع إثراء مستمر للغة الضاد وإغناء متجدد لطاقتها على التعبير والتحليل والتفسير والتأويل. دراسة الميزة يرى عجمي في كتابه «الميزياء» أن هذا المصطلح الذي ابتكره جهده التوليدي ـ اللغوي، يشير الى فلسفة دراسة الميزة. فالأشياء لها ميزات إضافية الى ما لها من ماهيات. فلكل شيء ميزة تميزه عن الأشياء الأخرى، على ضوئها يتشكل ويكون. والفرق بين الميزة والماهية هو أن الميزة قابلة للتغير وللتطور بينما الماهية ثابتة لا تتغير. من هنا تتمكن «الميزياء» من التعبير عن تغير الأشياء. فمثلا: للعقل ميزة تغيرت وتطورت مع تاريخ الإنسانية. فمع بداية وجود الإنسان كانت ميزة العقل كامنة في الحفاظ على الجنس البشري من خلال تجنب ما هو مضر والإقبال على ما هو مفيد. لكن هذه الميزة تغيرت وتطورت لتصبح كامنة في وظيفة الحصول على مزيد من المعرفة. أما لو بقي مفهوم العقل مرتكزا على ماهيته، فإنه لن يتمكن من التغير والتطور لأن ماهية العقل ثابتة. إضافة الى ذلك، تحاول «الميزياء» تقديم فلسفة جديدة، من خلال تحليلها طبيعة الماهيات الثابتة من منظورها المتحرك، ومن خلال تجنب فلسفة الاختزال. اذ يستحيل اختزال المفاهيم والماهيات الى مفاهيم وماهيات اخرى. بينما تعبر «الميزياء» عن اختلاف المفاهيم بدلا من اختزالها. فليس هناك شيء مطابق لشيء آخر، فالعقول مثلا، متنوعة ومختلفة بين الكائنات والأجناس الحية بسبب اختلاف الميزة فيها. لا تسجننا «ميزياء» عجمي في نظرية واحدة فريدة بل تفتح المجال أمام تنوع النظريات والأبحاث. فمثلا ميزة الكون قد ترتبط بنا وقد ترتبط بالمادة التي يتكون الكون منها. وبذلك قد تختلف دراسات الميزة وتتعارض مما يكسب الباحث في الميزة حرية تغني وتثري عقلانيته. يرى عجمي أن «الشيمياء» تدرس الصفات المشتركة بين الأشياء المختلفة. فمثلا، صفة البياض يشترك في امتلاكها «هذا الباب وتلك النافذة». و«هذا الرجل وتلك المرأة». ولكن صفة وظيفة الباب تختلف عن صفة وظيفة النافذة، فوظيفة الباب أنه لكي نخرج وندخل منه، أما وظيفة النافذة فلدخول ولخروج الهواء مثلا. هكذا تتوحد الأشياء وتختلف في عملية «شيميائية» مستمرة لا تنتهي. ومن أجل فهم الاشياء، لا بد من دراسة صفاتها المشتركة وغير المشتركة، وبذلك نتمكن من فهم توحدها واختلافها. أما «الجينياء»، فهو بنظر عجمي، المذهب الذي يقول ان كل شيء يتكون من «جينات»، وعلى ضوء «الجينات» تتشكل الظواهر والحقائق كافة. هذه «الجينات» هي التي تدرسها البيولوجيا باعتبارها حاملة للمعلومات التي تحدد تشكيل الأعضاء وخصائصها. من هنا، الكون ككل هو كائن حي يمتلك صفات الأحياء. فهو يولد وينمو ويموت، ويورث صفاته لغيره من الأكوان، وان كان قادرا على التأقلم والتكيف مع الممكنات اللامتناهية فإنه ينجح في البقاء وإلا فلا. فالأشياء المختلفة هي كائنات حية لها صفات الكائن الحي، فهي تتزاوج وتتوارث والأكثر تكيفا منها يبقى ويستمر ولا يزول. وأيضا يحتوي هذا الكتاب على مصطلحين جديدين هما: «الجيزياء» و«الحيزياء». الاول هو دراسة ما يجوز وما لا يجوز. فمثلا لا يجوز أن يوجد شيء من دون ميزة لكن يجوز للميزة أن تتغير وتتطور. أما «الحيزياء» عند عجمي، فهي دراسة حيز الشيء (محيطه المكاني أو الزماني أو العقلي ـ المفهومي) وللميزة أيضا حيزها المكاني أو الزماني وللحيز المكاني أو الزماني ميزته. والعقل يتكون من خلال محيطه الطبيعي، ومع اختلاف المحيط الطبيعي تختلف العقول. الما بين في كتابه الثاني الجديد بعنوان «البينياء» يرى عجمي أن هذا المصطلح يشير الى دراسة ما بين الأشياء بدلا من دراسة الأشياء بشكل مباشر، لأن ما بين الأشياء يبيّن الأشياء. وينقسم هذا الكتاب الى عدة حقول تحليلية معرفية منها: دراسة «بينياء الوجود، والكون»، والعقل، واللغة، والمعنى، وبينياء الفلسفة والدين، والزمن، والحركة والتغير، وبينياء السوبر حداثة والسوبر تخلف، وبينياء الاستنساخ، والبينياء كآلية فكرية. وبالنسبة الى «بينياء العقل»، يرى عجمي أن العقل يعتمد على وجود ونشاط النيورونات ـ الخلايا العصبية، وعلاقاتها ببعضها، ومع زيادة ارتباط هذه النيورونات في ما بينها تزداد أنشطة العقل التفكرية المختلفة. وبما أن العلاقات القائمة بين النيورونات هي الأساس في أنشطة التفكير العقلي، وبما أن هذه العلاقات موجودة بين النيورونات، اذاً، ما بينها، هو الذي يكون العقل هكذا، يتكون العقل من ما بين أجزائه العصبية. يتكون معنى العبارة اللغوية مما يكمن من علاقات بين كلماتها المتراصفة. ومع اختلاف ما يكمن بين المفاهيم في هذه الكلمات تختلف معاني العبارات. واذا انتقلنا الى مجال الفيزياء، فإنه يختلف مفهوم الكتلة في نظرية نيوتن عن مفهوم الكتلة في نظرية آينشتاين بسبب اختلاف ما يوجد من علاقات بين مصطلحاتهما. فمعادلة E=MC2 لآينشتاين تختلف عن معادلة F=ma لنيوتن. حيث الكتلة هي M عند الاثنين. هنا الكتلة في المعادلة الأولى تجمع بين مفاهيم مختلفة عن المفاهيم التي تجمعها الكتلة في المعادلة الثانية. هكذا، فالما بين في المعادلتين يبين المعنى ويجعله مختلفا بين المعادلتين. وعلى الصعيد اللغوي، يتكون النص اللغوي من «بينيائه»، أي مما يكمن بين سطوره. لذا، تتنوع تفاسير وتأويلات أي نص لغوي. وعلى صعيد أنطولوجيا الوجود والعدم، يتكون العدم مما يكمن بين أجزائه، من طاقات متعارضة تختزل بعضها البعض فيحدث العدم. ومن جراء التقلب الكمي للعدم وطاقاته المتعارضة، ينشأ الوجود. ومما يوجد من الطاقات المختلفة في العدم يتشكل العدم. وفي هذا السياق تتلاحق في الكتاب مصطلحات جديدة. وفي نهايات الكتاب، يعالج عجمي فلسفة النسخ التي تعتبر أن كل شيء ينسخ ذاته في نسخ عديدة ومختلفة. فالعقل ينسخ ذاته ولذلك يتنوع. فالتنوع كامن في عملية الاستنساخ المستمرة. ولذا، يغدو العقل مجموعة من العقول المختلفة استنساخا متعددا. فالعقل غير محدد بما هو عليه، بل ان العقل محدد بما يصير إليه وهذا هو مفهوم «الصيرياء». وكذلك الأمر مع اللغة: فهي تنسخ ذاتها في نسخ مختلفة ومتعارضة، منها ما تظهر اللغة فيها أداة للتخاطب أو أداة للتعبير عن الحقائق أو تمظهرا للمعاني المختلفة. وفي ختام هذا الكتاب، يظهر مصطلح «الحيرياء» الذي يعتبر أن الحيرة أفضل من اليقين، لأن الحيرة تدعونا دوماً إلى الاستمرار في البحث المعرفي والعلمي، أما اليقين فيسجننا في وهمه، إذ لا يقين في أي ميدان بحث معرفي، لأن العلم عملية تصحيح مستمرة. هذا الجهد الاشتقاقي والتوليدي ـ الفلسفي الملحوظ، يجعلنا نخشى عليه الوقوع في نزوع الاشتقاق والتوليد التناسلي لمثل هذا الكم الكبير من المصطلحات. إذ لا يجوز تحويل الاشتقاق الفلسفي الى لعبة لغوية تصح على كل شيء، يتحكم بها نزوع لتحويل كل مصطلح الى قانون علمي. فهذه المصطلحات في معانيها ومفاهيمها تحتاج الى مزيد من التخصص والتعمق في ميادينها المعرفية، بدلا من الوقوع في مطبات الإطلاق والتعميم البعيدة عن الحذر والحيطة والتنبه والاستدراك والاستنساب. وهي صفات مطلوبة في الأبحاث الفلسفية، يؤسفنا أن نجدها قليلة في إطلاقيات هذين الكتابين وتعميماتهما.

صفوان حيدر