الثلاثاء، 10 مارس 2009

ما هي الحياة؟


الفيزيائي إرون شرودنغر والطبيب شارون معلم:

ما هي الحياة؟



حسن عجمي

تتزاوج الميادين المعرفية من بعضها البعض فتنمو وتزدهر. من هنا يطبق الفيزيائي إرون شرودنغر الفيزياء على علم البيولوجيا فيشرح لنا الحياة على ضوء ميكانيكا الكم، وبذلك تتضح لا محددية الحياة. وانتقل هذا المنهج الى دراسة الجينات البيولوجية التي تبني الأحياء لكن الذي يفاجئنا حقاً هو موقف الطبيب شارون معلم الذي يقول إن أمراضنا كانت علاجاً لأجدادنا ما يدعم أطروحة لا محددية الحقائق والظواهر.
يقدم الفيزيائي إرون شرودنغر تصوراً فيزيائياً للحياة. شرودنغر مؤسس أساسي لنظرية ميكانيكا الكم التي تعتبر أن مبدأ اللايقين أو اللامحدد يحكم عالم ما دون الذرة. بالنسبة الى ميكانيكا الكم، من غير المحدد سرعة الجسيم ومكانه في الوقت ذاته، ومن غير المحدد ما إذا كان الجسيم كالالكترون جسيماً حقاً أم موجة، كما من الممكن للجسيم ذاته أن يوجد في أمكنة مختلفة في الوقت نفسه. لقد عبر شرودنغر عن هذه المبادئ الكمية بقوله إنه من غير المحدد ما إذا كانت القطة حية أم ميتة، واتخذت هذه القطة اسمه فأشير اليها على أنها قطة شرودنغر. على هذا الأساس غدت ميكانيكا الكم تقول بفضل شرودنغر إنه من غير المحدد ما إذا كانت قطة شرودنغر حية أم ميتة، وهذا بسبب لا محددية الجسيم بالنسبة الى ميكانيكا الكم. هكذا من الطبيعي أن يفسر شرودنغر الحياة على ضوء القوانين الفيزيائية وبخاصة على أساس مبادئ ميكانيكا الكم. بالفعل يقوم الفيزيائي شرودنغر برسم الخطوط العريضة للتفسير العلمي الفيزيائي للحياة. فيؤكد على أنه من الممكن للعلم الممثل بالفيزياء والكيمياء أن يفسر الحياة وإن لم يستطع ذلك بشكل كامل ودقيق في أيامنا هذه، والحجة الأساسية التي يعتمد عليها في طرح موقفه هي التالية: الحياة فيزيائية فالكائنات البيولوجية الحية مكونة من ذرات وجسيمات فيزيائية، وبذلك الحياة محكومة بقوانين الفيزياء كقانون اللامحدد الخاص بميكانيكا الكم. من هنا لا بد من دراسة الحياة من خلال قوانين الفيزياء، وخير قانون لفعل ذلك هو قانون اللامحدد الذي يحكم الجسيمات كافة (Erwin Schrodinger:What Is Life?1967. Cambridge University Press).
يوضح شرودنغر كيفية تطبيق الفيزياء على علوم البيولوجيا. فالأمثلة عديدة على نجاح ميكانيكا الكم وقانونها اللا محدد في شرح الحياة البيولوجية، فمثلاً، الكائنات الحية ترث الصفات البيولوجية لآبائها وأجدادها. لكن قد ترث بعض الصفات دون أخرى وقد ترثها أو لا ترثها. من هنا من غير المحدد ما ترث الكائنات الحية من آبائها وأجدادها. هكذا مبدأ اللامحدد يطبق على البيولوجيا فنحصل برأي شرودنغر على ميكانيكا الكم البيولوجية. مثل آخر علي تطبيق ميكانيكا الكم على البيولوجيا وتفسير الحياة من خلال الفيزياء هو التالي: تتعرض الكائنات الحية الى تحولات بيولوجية MUTATIONS، لكن هذه التحولات تصيب بعض الكائنات الحية وبعض الجينات دون أخرى من النسل ذاته. وتفسير ذلك كما يشير شرودنغر أنها محكومة بمبدأ اللامحدد المنتمي الى ميكانيكا الكم. كما أن التحولات البيولوجية غير متواصلة وخالية من خطوات تمهيدية لوصل الجسور الانتقالية من غير المتحول الى المتحول. وبذلك تمثل التحولات البيولوجية قفزات كمية غير محددة كالتي تؤكد عليها ميكانيكا الكم. كما يعتبر شرودنغر أن التحولات البيولوجية ليست سوى نتيجة التقلبات الكمية المحكومة باللامحدد؛ فالتحول البيولوجي شبيه بالتقلب الكمي ولذا هو مجرد تجلي للتقلب الكمي غير المحدد. هكذا لا محددية عالم فيزياء من دون الذرة تنتقل الى لا محددية التحولات البيولوجية، وبذلك يتم تفسير التحويلات البيولوجية على ضوء مبدأ اللامحدد الماثل في ميكانيكا الكم (المرجع نفسه). على أساس كل هذا نستطيع بحق أن نقول إنه من غير المحدد ما هي الحياة. وهذا موقف السوبر حداثة بالضبط. فبالنسبة الى السوبر حداثة، اللامحدد يحكم العالم كله وليس عالم ما دون الذرة فقط.
بالإضافة الى ذلك، يحلل إرون شرودنغر الحياة على النحو التالي: المادة حية متى تفعل شيئاً وتتحرك وتتبادل المواد مع محيطها.. إلخ في فترة زمنية أطول من المتوقع حدوثه مع المادة غير الحية في الظروف عينها (المرجع السابق). لكن يفشل هذا التحليل للحياة لأنه يقع في الدور. والدور هو تحليل الشيء بالشيء ذاته كتعريف الماء بالماء، ولذا هو مرفوض منطقياً. بالنسبة الى تحليل شرودنغر للحياة، المادة الحية هي التي تفعل وتتحرك وتتبادل المواد مع محيطها.. إلخ في فترة أطول مما تفعله المادة غير الحية. وبذلك تم استخدام مفهوم غير الحي المتضمن لمفهوم الحي في تحليل الحياة، وبذلك تم استعمال مفهوم الحياة في تحليل الحياة وبذلك وقع التحليل السابق في الدور. هذا يرينا فشل هذا التحليل للحياة ما يؤدي الى دعم اطروحة السوبر حداثة ألا وهي أنه من غير المحدد ما هي الحياة، ولذا يستحيل تقديم تحليل حق للحياة. من جهة أخرى، بالنسبة الى التعريف التقليدي للحياة، الحي هو الذي يتوالد وينمو ويتغذى ويتحرك ويموت. لكن هذا التحليل للحياة يقع أيضاً في الدور. فهو يحلل الحياة من خلال مفاهيم تتضمن مفهوم الحياة كمفهومي النمو والموت. فالكائن الذي ينمو هو الكائن الحي، والكائن الذي يموت هو الكائن الذي كان حياً. هكذا يتم تحليل الحياة من خلال مفهوم الحي، وهذا دور مرفوض كتعريف الماء بالماء. كل هذا يرينا استحالة تعريف الحياة بشكل سليم. وسبب ذلك أنه من غير المحدد ما هي الحياة. هكذا تكتسب السوبر حداثة مقبوليتها على أساس إصرارها على أنه من غير المحدد ما هي الحياة. فبما أنه من غير المحدد ما هي الحياة، إذن من الطبيعي أن لا يوجد تحليل حق للحياة. هكذا تفسر السوبر حداثة استحالة التعريف السليم للحياة، ولماذا واجهت التحليلات المختلفة للحياة كوارث قاتلة، وبذلك تضمن السوبر حداثة قدرتها التفسيرية فمقبوليتها.
يمتد اللامحدد الى عالم الجينات (جمع جين Gene). والجين وحدة معلوماتية، وبذلك تكون الجينات شبكة معلومات نتوارثها وتتفاعل مع المحيط الطبيعي وتسعى في تحديد صفات الأحياء. بالنسبة الى عالمي البيولوجيا بورت وترفرز، الجينات في صراع دائم في ما بينها؛ فهي لا تتفق على ما ينبغي أن يحدث في الجسد البيولوجي فللجينات نتائج متعارضة. فمثلاً، بعض الجينات تريد انتاج منويات سليمة بأعداد كثيرة بينما بعض الجينات الأخرى في الكائن البيولوجي ذاته تريد انتاج منويات غير سليمة. وبعض الجينات ترغب في حماية الخلايا من الضرر بينما جينات أخرى ترغب في تحطيمها. على هذا الأساس يستنتجان أن بعض الجينات أنانية ومؤذية للجسد، لكنها تبقى وتنتشر في الكائنات البيولوجية رغم أن معظم جينات الحيوان قد اختيرت للحفاظ على الكائن الحي واستمراره. فمعظم الجينات تنجح في الانتشار والبقاء في الأجساد الحية لأنها تزيد قدرة الحي على التأقلم والتكيف وبذلك تضمن بقاء الأفضل وتوالده. لكن رغم ذلك مع التطور البيولوجي عبر الزمن تولد الجينات المضرة وتصارع الجينات المفيدة فنحصل على صراع لا ينتهي بين الجينات؛ فالجينات في أمكنة مختلفة من الجسد الحي نفسه لها نتائج متناقضة. وخلافها كامن في كيف يجب أن ينمو الجسد البيولوجي وما ينبغي أن يحدث له (Austin Burt and Robert Trivers: Genes in Conflict.2008. Harvard University press).
الأجناس الحيوانية المختلفة كلها تملك عناصر جينية أنانية. وهذه الجينات الأنانية لها حياتها الخاصة المستقلة عن الأجساد الحية التي تحتويها، كما لها مصالح مختلفة عن مصالح الجسد الذي تحيا فيه. من هذا المنطلق، يستنتج كل من بورت وترفرز أنه يوجد عالمان بيولوجيان متوازيان، وكل عالم منهما يملك جيناته الخاصة المستقلة وقوانينه المختلفة عن العالم البيولوجي الآخر. هكذا الكائن الحي ينقسم الى هذين العالمين المتعارضين؛ فثمة جسدان متصارعان في كل جسد حي بدلاً من جسد واحد (المرجع نفسه). هذا يذكرنا أيضاً بميكانيكا الكم التي بالنسبة اليها يوجد عالمان ممكنان بدلاً من عالم واحد؛ عالم ممكن حيث قطة شرودنغر حية وعالم ممكن آخر حيث القطة نفسها ميتة. من هنا لا محددية الواقع الفيزيائي في نموذج ميكانيكا الكم تنتقل الى لا محددية الواقع البيولوجي في العلوم البيولوجية المعاصرة. فحقيقة أنه من غير المحدد ما إذا كانت قطة شرودنغر حية أم ميتة أدت الى تفسيرها على أنها تعني أن ثمة عالمان: عالم فيه القطة حية وعالم آخر حيث القطة ذاتها ميتة. كما لا محددية الجينات أدت الى تفسيرها على أنه ثمة عالمان بيولوجيان في الجسد نفسه، عالم الجينات المفيدة وعالم الجينات المضرة. الآن، كل الاعتبارات العلمية السابقة تشير الى لا محددية الحياة فمثلاً، بما أن الجينات لها وظائف ونتائج متعارضة، إذن من غير المحدد ما هي مضامينها، وبذلك من غير المحدد ما هي الحياة. فلو أنها محددة، ما كانت لتختلف الجينات في أفعالها ونتائجها، وما كانت لتتصارع في ما بينها. فمن غير المحدد هل الجينات لخلق الضرر ام لخلق المفيد. وبما انه ثمة جسدان مختلفان في كل كائن حي بدلاً من جسد واحد، إذن من غير المحدد ما هو الجسد الحي؛ أهو الجسد الأول أم الثاني؟
تؤكد العلوم البيولوجية المعاصرة على أنه لا توجد وظائف محددة للجينات؛ فالجين لا يملك وظيفة واحدة بل تتعدد وظائفه وتختلف وإلا ما تمكنت الجينات من صناعة كل البروتينات الضرورية للحياة. ولقد أثبت الاختبار العلمي لا محددية الجينات ووظائفها على النحو التالي: عندما أزيلت الجينات المرتبطة بوظائف معينة لم يتأثر ولم يتغير الجسد الحي الذي تمت إزالة الجينات منه؛ وهذا لأن جينات من نوع آخر اتخذت مكان الجينات التي تمت إزالتها وقامت بوظائفها (Sharon Moalem: Survival of The Sickest/2008 harper). هذا يشير بقوة الى لا محددية الحياة. فبما أن الجينات ووظائفها غير محددة، وعلماً بأن الحياة تعتمد على وتتكون من الجينات ووظائفها. إذن الحياة غير محددة.بالإضافة الى ذلك، يقدم الطبيب شارون معلم تصوراً طبياً جديداً مفاده أن المرض الذي يصيبنا اليوم كانت له فائدته في إبقاء أجدادنا أحياء. هكذا يغدو المرض شفاء والموت حياة. فكما علمنا دارون، الصفات البيولوجية التي تحافظ على الحياة هي التي تبقى ونتوارثها. لذا من المستغرب كيف أننا نرث الأمراض في جيناتنا. يجيب الطبيب شارون معلم عن هذا السؤال ويحل المعضلة بقوله إن الصفات الجينية التي تجعلنا مرضى اليوم لا نتوارثها ولا تستمر معنا إلا في حال كانت مفيدة في الحفاظ على الحياة أولاً كإبقاء أجدادنا أحياء، ما يضمن انتاجهم لنا. فمثلاً، عندما اجتاح الطاعون أوروبا سنة 1347، الأشخاص الذين يملكون تحولاً جينياً يتضمن نقص الحديد في الجسد تمكنوا من حماية أنفسهم من الطاعون القاتل من خلال تجويع بكتيريا الطاعون. فبفضل نقص الحديد في الكائن الحي ماتت البكتيريا المسببة للطاعون علماً بأنها تتغذى من الحديد. الفقر في مستوى الحديد في الجسم قدم خدمة لأجداد أوروبا في جعلهم ينجون من الطاعون. وبذلك توارث الأبناء مرض فقر الحديد في الجسد الحي. هكذا مرضنا اليوم علاجنا في الماضي (Sharon Moalem: Survival Of the Sickest.2008 Harper)، على ضوء هذه الاعتبارات العلمية تتضح الحياة على حقيقتها ألا وهي أنها غير محددة. فموت أجدادنا حياة لنا، وموتنا حياة أجدادنا. والمرض الذي يقلتنا سبب وجودنا أصلاً لأن به تمكن أجدادنا من البقاء ونجحوا في إنجابنا. فبما أن المرض يشفي، إذن من غير المحدد ما هي الحياة بمعنى آخر، الجين ذاته الذي يقتل يحيي وهو ذاته الذي يحيي يقتل، لذا الحياة غير محددة ما هي. فلو أن الحياة محددة ما هي لاستحال على الجين الحي ذاته أن يملك صفات متناقضة كالأمراض والشفاء والإماتة والإحياء.
أخيراً، تؤكد السوبر حداثة على أنه من غير المحدد ما هي الحياة، وتبني موقفها على أساس اعتبارات علمية معاصرة، الآن، بما أنه من غير المحدد ما هي الحياة، إذن من الطبيعي أن تتجسد الحياة في كائنات وأجناس حية مختلفة وأن تنمو وتنتشر في أصعب الأمكنة كأن توجد في قعر المحيطات المظلمة وفي جوف الصخور وقرب البراكين الملتهبة وفي المياه السامة. هكذا تنجح هذه الفرضية في تفسير الحقائق البيولوجية السابقة باختصار، لقد دخلنا عصر السوبر حداثة حيث تنتصر لا محددية الحياة.