السبت، 28 مارس 2009

تفكيك المستحيل و الممكن


ميشيو كاكو في " فيزياء المستحيل ":

تفكيك المستحيل و الممكن


حسن عجمى
يعتبر الفيزيائي ميشيو كاكو أن المستحيل مفهوم نسبي . وحجته الأساسية على ذلك أن الأشياء التي كانت تبدو مستحيلة أصبحت حقائق علمية . فمثلا ً ، أكد الفيزيائي كالفـن في العصر الفكتوري أن الآلات الأثـقل من الهواء كالطائرات من المستحيل أن تطير. لكن طبعاً هذا المستحيل تحوّل إلى إمكانية فواقع . كما أن كيمياء القرن التاسع عشر أكدت على استحالة تحويل الرصاص إلى ذهب . لكن اليوم من الممكن تحويل الرصاص إلى ذهب بفضل الآلات المحطِّمة للذرة . هكذا المستحيل يغدو ممكنا ً . على هذا الأساس يستنتج كاكو أن العلماء يصححون معنى المستحيل بشكل دائم على ضوء اكتشافاتهم ونظرياتهم . من هنا المستحيل نسبي ويختلف من نظرية علمية إلى أخرى . وبذلك يبدو أنه لا فارق جوهري بين المستحيل و الممكن . يضيف ميشيو كاكو قائلا ً إن دراسة المستحيل فتحت ميادين علمية غنية وغير متوقعة . فمثلا ً ، محاولات العلماء الفاشلة في بناء آلة حركية دائمة و أبدية أدت بالفيزيائيين إلى اعتبار انه من المستحيل وجود تلك الآلة وصناعتها وبذلك دفعتهم إلى صياغة مبدأ حفظ الطاقة كمبدأ علمي أساسي ( Michio Kaku : Physics of The Impossible . 2008 . Doubleday ).
من جهة أخرى ، يقسِّم كاكو المستحيلات إلى ثلاثة أقسام هي : أولا ً ، المستحيلات المستحيلة اليوم و التي لا تعارض قوانين الفيزياء المعروفة. وبذلك هذه المستحيلات قد تغدو ممكنات و وقائع في هذا القرن أو القرن الذي يليه . مثل ذلك الانتقال عن بُعد. هذه التقنية التي كانت مستحيلة أصبحت اليوم ممكنة على الأقل في نطاق نقل الذرات عن بُعد . ثانيا ً ، ثمة مستحيلات إذا أمست ممكنات فستتحقق بعد آلاف او ملايين من السنين في المستقبل . مثل ذلك آلة الزمن التي من المفترض أن نسافر بها إلى الماضي أو إلى المستقبل . ثالثا ً، ثمة مستحيلات تناقض قوانين الفيزياء المعروفة ، لكن عددها قليل . و إذا ما اتضح أنها ممكنات سيمثل هذا تحوّلا ً أساسيا ً في فهمنا للفيزياء . مثل على هذه المستحيلات هو آلة الحركة الأبدية . بالنسبة إلى كاكو هذا التقسيم للمستحيلات ضروري لأن الذي نعتبره مستحيلا ً هو بالفعل مستحيل بالنسبة إلى حضارتنا البدائية ليس إلا. فالتقنيات المستحيلة بالنسبة إلى حضارتنا الحالية ليست بالضرورة مستحيلة بالنسبة إلى حضارات أكثر تطورا ً من حضارتنا. فمثلا ً السفر عبر النجوم مستحيل علينا بسبب البُعد الشاسع بين النجوم . لكن هذا السفر المستحيل بين النجوم ممكن بالنسبة إلى حضارة أخرى متطورة عنا بقرون أو آلاف أو ملايين من السنين ( المرجع السابق ).
يناقش كاكو المستحيلات التي قد تمسي ممكنات كتقنية الانتقال عن بُعد وهي القدرة على النقل الفوري لفرد أو لشيء من مكان إلى آخر من دون المرور بالمسافة الفاصلة بين المكانين المعنيين.
لهذه الإمكانية أساس علمي صلب يعتمد على ميكانيكا الكم ّ. بالنسبة إلى ميكانيكا الكم ّ، الجسيمات تختفي فجأة وتظهر فجأة في مكان آخر . فمثلا ً الإلكترونات تتصرف كالموجات ولها القدرة على أن تقفز كميا ً Quantum Leap بين مكانين من دون قطع المسافة بينهما . في نموذج ميكانيكا الكم من غير المحدَّد سرعة الجسيم ومكانه في الوقت ذاته ، و الجسيمات تتصرف كأنها جسيمات وموجات في آن ، كما أن الجسيم كالإلكترون من الممكن أن يوجد في أمكنة عديدة مختلفة في الوقت نفسه . على هذه الأسس تصبح تقنية الانتقال عن بُعد ممكنة ؛ فبما أنه من الممكن للإلكترون أن ينتقل عن بُعد ، إذن من الممكن لأي شيء آخر أن يقوم بذلك ايضاً علما ً بأن الأشياء مكوّنة من إلكترونات . وهذه التقنية تعتمد بشكل أساسي على التشابك الكمي Quantum entanglement حيث يؤثر جسيمان على بعضهما البعض رغم البُعد المكاني الهائل بينهما . فالمعلومات في جسيم معين تنتقل فوريا ً إلى جسيم آخر ما يجعل الانتقال عن بُعد ممكنا ً. وبالفعل تمكن العلماء من تحقيق الانتقال عن بُعد فنقلوا عن بُعد كل المعلومات في الجسيم كما تمكنوا لاحقا ً من نقل الفوتونات وبعض الذرات عن بُعد ( المرجع نفسه ).
من المنطلق ذاته الذي ينتقد فيه ميشيو كاكو ثنائية المستحيل و الممكن ، تنتقد الفلسفة المعاصرة ثنائية القول التحليلي و القول التركيبي. يعتبر التقليد الفلسفي أنه ثمة فرق شاسع بين القول التحليلي الصادق من جراء معاني ألفاظه و القول التركيبي الصادق على ضوء ما يوجد في الواقع . مثل على القول التحليلي هو " القطط حيوانات " ؛ فعبارة " القطط حيوانات " عبارة صادقة من جراء معنى مفهومي " القطط " و " الحيوانات " . أما القول " ثمة شجرة في الدار " فهو قول تركيبي لأنه قول صادق فقط في حال وجود شجرة في الدار ؛ أي أنه قول صادق بفضل الواقع و ليس من جراء معاني ألفاظه . هذا التقسيم بين الأقوال التحليلية و التركيبية أرساه كانط بدقة . لكن الفيلسوف بتنم و الفيلسوف كوين ينتقدان هذا التمييز . من الممكن تقديم حجتهما الأساسية على صدق موقفهما على النحو التالي : إذا وجد تمييز بين القول التحليلي و التركيبي ، إذن القول " القطط حيوانات " هو قول تحليلي وبذلك هو قول صادق في كل عالم ممكن ، أي من المستحيل أن يكون كاذبا ً .
لكن من الممكن أن يكون كاذبا ً . لذا لا يوجد فرق حق بين الأقوال التحليلية و التركيبية . ومن الممكن أن يكون القول " القطط حيوانات " قولا ً كاذبا ً بسبب إمكانية أن تكون القطط مجرد آلات . فمن الممكن أن تكون القطط مجرد آلات في عالم ممكن رغم أنها تشبه قططنا الواقعية في شكلها الخارجي وفي تصرفاتها (.Quine : From A Logical Point of View. 1980 Harvard University Press ).
لكن نقد التمييز بين القول التحليلي والقول التركيبي هو ذاته نقد التمييز بين المستحيل و الممكن . هذا لأن بالنسبة إلى الفلسفة التقليدية القول التحليلي هو الصادق في كل عالم ممكن وبذلك هو الذي من المستحيل أن يكون كاذبا ً ، بينما القول التركيبي هو الذي من الممكن أن يكون كاذبا ً .
كل هذا يرينا أنه لا يوجد فرق جذري بين المستحيل و الممكن . هكذا يتم تفكيك المستحيل و الممكن ؛ فثنائية المستحيل و الممكن ثنائية كاذبة . لكن لماذا لا يوجد فرق حاسم بين المستحيل و الممكن ؟ تجيب السوبر حداثة على النحو التالي : من غير المحدَّد ما هو المستحيل وما هو الممكن ، لذا من الطبيعي أن لا يوجد فرق جذري بين المستحيل و الممكن. هكذا تكتسب السوبر حداثة قدرتها التفسيرية ؛ فهي هنا تفسِّر لماذا تزول ثنائية المستحيل و الممكن . فبالنسبة إلى السوبر حداثة ، من غير المحدَّد ما هو الكون ، لكن رغم ذلك من الممكن معرفته لأن من خلال لامحددية الكون من الممكن تفسيره .
وبما أنه من غير المحدَّد ما هو الكون ، إذن من الطبيعي أن يكون من غير المحدَّد ما هو المستحيل و الممكن ، ولذا المستحيل قد يغدو ممكنا ً ولذا أيضا ً تختلف النظريات العلمية و الفلسفية حول ما هو مستحيل وما هو ممكن . المستحيل ممكن صامت.





الرابط : http://egyptianoasis.nileweb.com/content/view/75/2/