الجمعة، 3 أبريل 2009

تجلـي نظريـة دارويـن فـي الفيزيـاء والفلسـفة





حسن عجمي

شهدت نظرية داروين في الانتقاء الطبيعي انتصارا ساحقاً لم تشهده أية نظرية أخرى. فلقد سيطرت على التفكير البشري بعد إعلانها، وتم استخدامها في الميادين المعرفية كافة. لذا من المفيد أن نستعيد قراءتها ونرصد تطبيقاتها المعاصرة في الفيزياء والفلسفة، خاصة أن علماء البيولوجيا قدّموا مؤخراً دليلا قاطعاً على صدق النظرية الداروينية. منذ فترة قصيرة، أجرى فريق من العلماء اختباراً علمياً على نوع من الديدان أثبتوا من خلاله أن الارتقاء الطبيعي ليس عشوائياً، بل يتم من خلال الانتقاء الطبيعي للصفات الناجحة. وبذلك برهنوا على صدق نظرية الارتقاء لداروين. فبالنسبة إلى نظرية داروين، يرث الجسد الحي من آباءه وأجداده الصفات الناجحة التي بفضلها يتمكن من البقاء على قيد الحياة. لقد أكد هذا الاختبار أن الارتقاء أو التطور البيولوجي ليس عشوائياً بل هو ارتقاء مُحدَّد؛ فمن المحدَّد أن الأحياء يرثون الصفات الأفضل من صفات آبائهم. وبذلك من المتوقع أن ينتهي الخلاف بين العلماء حول ما إذا كان الارتقاء عشوائياً أم لاCurrent Biology.) November 2007 ). على ضوء هذا التأكيد الجديد على صدق نظرية داروين، لا بد أن ننظر إلى ما تضيفه النظرية الداروينية إلى الميادين المعرفية الأخرى.
يُقدِّم الفيزيائي لي سمولن تصورا علميا جديداً مضمونه التالي: ثمة أكوان ممكنة مختلفة في قوانينها وحقائقها. لكن هذه الأكوان غير منفصلة عن عالمنا الواقعي، بل عالمنا الواقعي ينتقل من عالم ممكن إلى عالم ممكن آخر. يضيف سمولن أن الكون محكوم بمبدأ الانتقاء الطبيعي الخاص بنظرية داروين. فكما أن الانتقاء الطبيعي يفضِّل الكائنات الحية ذات الخصائص الناجحة في إبقائها حية فيختارها لتبقى، كذلك الانتقاء الطبيعي في ميدان الكوزمولوجيا ينتقي الأكوان الممكنة ذات الخصائص الأفضل للبقاء فيختارها لتولد دون سواها. يقول إنه من الممكن علمياً أن تنشأ الأكوان الممكنة في الثقوب السوداء. وبذلك الانتقاء الطبيعي حاكم الأكوان الممكنة يختار الأكوان الممكنة الحاوية أكثر ثقوباً سوداء فيبقيها لقدرتها على إنجاب أكوان ممكنة أكثر. هكذا يعمل الانتقاء الطبيعي في ميدان الفيزياء والكوزمولوجيا. ويضيف سمولن أن عالمنا الواقعي ممتلئ بالثقوب السوداء. إذاً من الطبيعي أن يكون الانتقاء الطبيعي قد اختار عالمنا، ولذا يوجد عالمنا بالذات. هكذا يفسِّر سمولن لماذا يوجــد عالمنا بالذات (Lee Smolin : Three Roads To Quantum Gravity . 2001 .Basic Books ). هذا يرينا تطبيق النظرية الداروينية في الفيزياء وعلم الكوزمولوجيا، ما يشير إلى ولادة ميدان معرفي جديد هو البيولوجيا الفيزيائية أو الفيزياء البيولوجية.
لا تكتفي النظرية الداروينية باجتياح الفيزياء والكوزمولوجيا، بل تنشر سيطرتها على الفلسفة. مثل ذلك دخولها إلى عالم فلسفة العلم. تنقسم فلسفة العلوم إلى مذهبين أساسيين هما المذهب الواقعي realism والمذهب اللاواقعي antirealism . بالنسبة إلى المذهب الواقعي، النظريات العلمية المعاصرة ناجحة في تفسير العالم لأنها صادقة. فالمذهب الواقعي يفسِّر نجاح النظريات العلمية من خلال صدقها؛ فبما أنها صادقة، إذاً من الطبيعي أن تكون ناجحة في تفسير الكون. أما المذهب اللاواقعي فيرفض هذا التفسير لنجاح العلوم ويعتقد بأن النظريات العلمية الناجحة ليست صادقة ولا كاذبة بل هي فقط مقبولة كونها ناجحة. ويمضي المذهب اللاواقعي في تفسير نجاح النظريات العلمية المعاصرة من خلال مبادئ مختلفة عن اعتبارها صادقة. فتتنوع المذاهب ضمن المذهب اللاواقعي ومنها مذهب فان فراسن الذي يستعين بالنظرية الداروينية من أجل تفسير نجاح النظريات العلمية. بالنسبة إلى الفيلسوف فان فراسن، النظريات العلمية في صراع دارويني دام في ما بينها، وبذلك من المتوقع أن تبقى النظريات العلمية الأكثر نجاحاً وقوة. لذا النظريات العلمية المعاصرة ناجحة. فالانتقاء الطبيعي يختار بقاء الأفضل والأنجح والأقوى، لذا من الطبيعي أن يختار النظريات العلمية الأنجح ويبقيها دون سواها. هكذا يفسِّر فان فراسن نجاح النظريات العلمية المعاصرة من خلال الصراع الدارويني والانتقاء الطبيعي للصفات الناجحة (Van Fraassen : The Scientific Image . 1990 . Clarendon Press. Oxford ).
بالإضافة إلى ذلك، حارب ديكارت المذهب الشكي في المعرفة من خلال قوله المشهور «أنا أفكّر، إذاً أنا موجود». لكن رغم ذلك أسس لحجة قوية داعمة للمذهب الشكي مفادها التالي: من الممكن أننا في مجرد حلم. ولذا مهما كانت المعلومات المتوافرة لدينا لدحض المذهب الشكي، فقد نكون مجرد حالمين بها، وبذلك تستحيل البرهنة على أننا لسنا في حلم، ما يؤدي إلى ضرورة الشك في حصولنا على أية معرفة. ما زال المجتمع الفلسفي يحاول الرد على هذه الحجة، ومن تلك الردود الرد الدارويني. بالنسبة إلى الرد الدارويني، المعرفة ممكنة لأنها إذا لم تكن ممكنة ما كان الإنسان لينجح في البقاء على قيد الحياة، علماً بأنه في صراع مميت مع الطبيعة وكائناتها. فلو أنه لا يملك معرفة بما يحيط به ما كان لتمكن من البقاء حياً. من هنا المعرفة ممكنة والمذهب الشكي الذي يشك في إمكان الحصول على المعرفة هو مذهب خاطئ بلا شك. من هذا المنطلق، يقدِّم الفيلسوف كوين موقفه الدارويني في فلسفة المعرفة على النحو التالي: إذا لم يكن الاستقراء الذي يستخدمه الإنسان يوصل إلى المعرفة، فما كان ليتمكن الإنسان من أن يستمر في الحياة. فالذين لم يتوصلوا إلى معارف من خلال الاستقراء فشلوا في التكيف مع محيطهم الطبيعي وبذلك زالوا. أما الذين تمكنوا من الوصول إلى المعرفة من خلال الاستقراء فتمكنوا من التكيف مع الطبيعة والتغلب عليها وتجنب ضررها والاستفادة من مفيدها، وبذلك ظلوا أحياء وأنجبوا فاستمرت البشرية. من هنا الانتقاء الطبيعي يختار الذين يصلون إلى معارف دون سواهم فيبقيهم أحياء. هكذا بالنسبة إلى كوين تنجح النظرية الداروينية في الرد على المذهب الشكي وإعلاء إمكان المعرفة
( Quine : Ontological Relativity . 1969 . Columbia University Press ).
كما أن البيولوجي ديفيد ولسون يقدّم مثلاً واضحاً على التطبيق الشامل للنظرية الداروينية. يقول إنه من خلال النموذج الدارويني نتمكن من تفسير معظم الظواهر وفهم عالمنا وذواتنا أيضاً. بالنسبة إليه، النظرية الداروينية تملك قدرة تفسيرية هائلة تشمل تفسير الخير والشر والجمال والقبح والجسد والعقل. فمعظم الصفات التي يكتسبها أي كائن حي هي نتيجة الانتقاء الطبيعي ولها وظيفة التكيف مع المحيط والحفاظ على الحياة. فمثلاً، ما هو خيّر هو مجرد تأقلم بيولوجي يسمح لصاحبه أن يستمر على قيد الحيــــاة. فالكائنات الحية الخيّرة تتعاون من أجل تحقيق النجاح والبقاء. والعقل بذكائه يتيح لنا النجاح في التكيف مع المتغيرات، ما يجعل العقل نتيجة الانتقاء الطبيعي تماماً كالقلب والدورة الدموية وجهاز المناعة. فالكائنات الحية مُصمَّمة بعناية لأن الانتقاء الطبيعي يختار الصفات الأفضل للبقاء، أما الصفات الأفشل فتزول من جراء فشلها. فالعقل سلاحنا لتحقيق نجاح الجنس البشري في التكيف والبقاء. والخيّر هو المفيد لنا في إبقائنا أحياء. والجميل هو الذي يحسّن تأقلمنا البيولوجي؛ فالمفيد لنا نراه جميلا. فمثلا، علامات الصحة الجيدة في المرأة تدلنا على جمالها. كما أننا جزئياً نعشق ونحب كي ننجب ونستمر في أبنائنا. هكذا الحُب أيضاً تكيف بيولوجي نتيجة الانتقاء الطبيعي للأنجح والأفضل. وأدياننا ومعتقداتنا وسلوكياتنا توجد لأنها تضمن بقاءنا وإنجابنا. فمثلا، الدين ليس سوى فوائده العملية التي تؤدي إلى بناء المجتمع وبقاء الفرد ( David Wilson : Evolution For Everyone . 2007 .Delacorte Press ).
لكن التطبيق الشامل للنظرية الداروينية على الميادين المعرفية المختلفـة ليـس تطبيقاً علميا، لذا مصيره الفشل. فمهما كانت الظاهرة التي نريد تفسيرها من خلال النموذج الدارويني، فسوف نقول إنها كذلك بسبب أنها تتصارع مع ظواهر أخرى مختلفة، ولصلابة عناصرها تمكنت من الانتصار على الظواهر المنافسة لها، لذا استمرت في الوجود. هكذا مهما كانت الظواهر والحقائق والأشياء، سيتم تفسيرها من خلال النظرية الداروينية، وبذلك يستحيل تكذيبها. لكن العلم هو الذي من الممكن تكذيبه من خلال الاختبار. من هنا تطبيق النظرية الداروينية على هذا النطاق الواسع يجعلها غير علمية، لأنها لا تحدِّد بالفعل ما يجب أن تكون عليه الحقائق والظواهر، ما يجعلها غير قابلة للاختبار فتغدو غير علمية. هكذا رغم صدق النظرية الداروينية، فإن التطبيق الشامل لها على الميادين غير البيولوجية يحوّلها إلى وهم معرفي.