الثلاثاء، 10 مارس 2009

حسن عجمي و التاريخ يبدأ من المستقبل


فلسفة العلوم واللغة والحقيقة:

التاريخ يبدأ من المستقبل





حسن عجمي

نقدِّم في هذا البحث عرضاً مختصراً لفلسفات العلوم واللغة والحقيقة والارتباط العضوي بينها. ومن ثم نطرح بعض الأفكار الممكنة المتمثلة في مذهبي السوبر حداثة والسوبر مستقبلية. فالشعوب التي لا تفكر بالممكنات لاتحيا في الواقع.
***
تنقسم فلسفة العلوم إلى مذهبين متصارعين هما المذهب الواقعي والمذهب اللاواقعي. بالنسبة إلى المذهب الواقعي، النظريات العلمية المعاصرة الناجحة هي نظريات صادقة. المذهب الواقعي realism يفسِّر نجاح النظريات العلمية من خلال صدقها فيقول إن التفسير الوحيد لنجاح النظريات العلمية في تفسير الكون هوأنها نظريات صادقة؛ فبما أنها صادقة إذن من الطبيعي أن تكون ناجحة. أما المذهب اللاواقعي antirealism فيعتبر أن النظريات العلمية ليست صادقة ولا كاذبة بل هي فقط مقبولة. بالنسبة إلى المذهب اللاواقعي، النظريات العلمية مجرد أدوات لتفسير الكون والتنبؤ بظواهره. وتتعدد تفاسير المذهب اللاواقعي لنجاح العلم. من تلك التفاسير تفسير الفيلسوف فان فراسن التالي: النظريات العلمية في صراع دام فيما بينها، وفقط الأنجح منها يبقى ويستمر لكونه الأنجح. هكذا النظريات العلمية عرضة للانتقاء الطبيعي ؛ فكما أن الانتقاء الطبيعي الدارويني يختار فقط الأفضل والأنجح من الكائنات الحية فيبقيها في الوجود، كذلك الانتقاء الطبيعي يختار الأفضل والأنجح من النظريات العلمية فيبقيها، ولذا النظريات العلمية المعاصرة ناجحة Bas Van Fraassen :The Scientific Image . 1980 . Clarendon ) Press Oxford) .
هكذا يتمكن المذهب اللاواقعي من تفسير نجاح العلم من دون اعتبار العلم صادقاً. بالإضافة إلى ذلك، للمذهب اللاواقعي حجج قوية على صدق موقفه منها الحجة التالية: يرينا تاريخ العلم أن النظريات العلمية يتم استبدالها بنظريات علمية أخرى. فمثلاً تم استبدال نظرية نيوتن بنظرية أينشتاين ؛ فبعدما كانت تعتبَر نظرية نيوتن الفيزيائية صادقة بفضل نجاحها تبيّن لاحقاً أنها غير صادقة واستبدلت بنظرية أينشتاين. وبما أن النظريات العلمية تستبدَل بأخرى رغم نجاحها، فلا يدل إذن نجاح النظريات العلمية المعاصرة لا يدل بالضرورة على صدقها. من هنا النظريات العلمية ليست صادقة ولا كاذبة بل فقط مقبولة (Editors:Boyd, Gasper, and Trout:The Philosophy of Science.1991.MIT).
أما فلسفة اللغة فتنقسم أيضاً إلى مذهب واقعي وآخر لا واقعي (ليس بالمعنى السلبي طبعاً). بالنسبة إلى المذهب الواقعي في اللغة، الواقع يُحدِّد المعنى. فمثلا يعتبر الفيلسوف فودر أن العلاقة السببية هي العامل الأساس في تحديد المعاني وتشكيلها. مثل ذلك أن مفهوم "القطة" يعني القطة لأن القطة في عالمنا الواقعي تسبِّب مفهوم "القطة"(Jerry Fodor: A Theory Of Content .1992.The MIT Press.) أما الفيلسوف ديفد سون فيعتبر أن المعاني مُحدَّدة من قبل قيم الصدق المطابقة للواقع. مثل ذلك أن عبارة "الثلج أبيض" تعني الثلج أبيض لأن تلك العبارة صادقة فقط في حال أن الثلج أبيض وكاذبة إن لم يكن الثلج أبيض Davidson :Inquiries into Truth & Interpretation.) 1984 . Clarendon Press .Oxford).Donald من جهة أخرى، يؤكد المذهب اللاواقعي في اللغة أن المعنى غير مُحدَّد من قبل الواقع. وتتنوع النظريات ضمن هذا النموذج الفلسفي منها موقف الفيلسوف فتجنشتين القائل بأن المعنى هوالاستعمال. فاستعمالنا للمفاهيم هوالذي يحدِّد معانيها . وهذا ما يوافقه عليه الفيلسوف الأمريكي دوميت وغيره (Drew Khlentzos : Naturalistic Realism and The Antirealist Challenge . 2004 . (The MIT Press بالاضافة إلى ذلك، تنقسم فلسفة الحقيقة أيضاً إلى مذهب واقعي ومذهب لا واقعي. يعتبر المذهب الواقعي أن الحقيقة هي ما يطابق الواقع. فمثلا عبارة "الثلج أبيض" عبارة صادقة لأن الثلج أبيض أي لأنها عبارة تطابق ما يوجد في الواقع.
أما المذهب اللاواقعي في تحليل الحقيقة فيرفض الموقف القائل بأن الحقيقة هي التي تطابق الواقع ويحلِّل الحقيقة من خلال اعتبارات أخرى. فمثلا يعتبر المذهب البراغماتي أن الحقيقة هي المفيد بدلا من أن تكون ما يطابق الواقع المادي خارج الإنسان. فالحقيقة هي مجرد المفيد في التفسير والتحليل وفي استمرارنا ونجاحنا، وليست الحقيقة شيئاً آخر سوى الإفادة. هكذا يستغني المذهب اللاواقعي عن الاعتماد على الواقع في تعريف الحقيقة. موقف لاواقعي آخر يقول إن الحقيقي الصادق هوالذي ينسجم مع معظم معتقداتنا. هنا يتم تحليل الحقيقة من خلال الانسجام بين المعتقدات من دون النظر إلى الواقع خارج الإنسان (: Richard Kirkham Theories of Truth. 1992. The MIT Press). هكذا تعتمد المذاهب اللاواقعية على الإنسان وأفعاله في تحليل مفاهيم الحقيقة والمعنى والنجاح العلمي بينما المذاهب الواقعية تعتمد على الواقع خارج الإنسان في عملية تحليل تلك المفاهيم وتفسيرها. الآن، نستطيع أن نرى كيف أن فلسفة العلوم وفلسفة اللغة وفلسفة الحقيقة تشكل حقلاً فلسفياً واحداً ومن غير الممكن الفصل بينها.
هذا لأننا إذا قبلنا الموقف اللاواقعي في ميدان فلسفي معين فسوف نصل إلى قبول المواقف اللاواقعية في الميادين الفلسفية الأخرى، أما إذا قبلنا الموقف الواقعي في ميدان فلسفي ما فسوف نصل لا محالة إلى قبول المواقف الواقعية في الميادين الفلسفية الأخرى. هكذا تكوّن الحقول الفلسفية المختلفة حقلاً فلسفياً واحداً.
مثل ذلك أننا إذا اعتبرنا أن المعنى يحدِّده الاستعمال وليس الواقع، إذن صدق عباراتنا محدَّد من قبل استعمالنا وليس من قبل الواقع وبذلك النظريات العلمية أيضاً مرتبطة باستعمالنا لها وليس بالواقع. على هذا الأساس، من خلال قبول المذهب اللاواقعي في اللغة نقع في قبول المذهبين اللاواقعيين في تحليل الحقيقة والعلم. أما إذا اعتبرنا النظريات العلمية صادقة فهذا يتضمن أنها تطابق الواقع وأن معانيها تعبّر عن واقع عالمنا.
هكذا يؤدي قبولنا بالمذهب الواقعي في العلوم إلى قبولنا بالمذهبين الواقعيين في تحليل الحقيقة والمعنى. لكن من الممكن الخروج من المذهبين الواقعي واللاواقعي من خلال طرح فلسفات جديدة كفلسفة السوبر حداثة وفلسفة السوبر مستقبلية. بالنسبة إلى السوبر حداثة، اللامحدَّد يحكم العالم، لكن رغم ذلك من الممكن الحصول على المعرفة لأن من خلال لا محددية الكون من الممكن تفسيره.
من هذا المنطلق، تعتبر السوبر حداثة أن من غير المحدَّد أية نظرية علمية هي النظرية الصادقة. ولذا ثمة نظريات علمية مختلفة كلها ناجحة في تفسير الكون رغم أنها تعارض وتناقض بعضها البعض. هكذا تتمكن السوبر حداثة من تفسير نجاح النظريات العلمية رغم اختلافها وتعارضها. فمثلا ، نظرية النسبية لأينشتاين تعارض نظرية ميكانيكا الكم ؛ فبينما النظرية الأولى تقول إن الكون حتمي تعتبر النظرية الثانية أن الكون غير حتمي. لكنّ النظريتين ناجحتان في تفسير عالمنا. ولذلك كيف من الممكن أن يكونا ناجحتين رغم تعارضهما؟ تجيب السوبر حداثة قائلة إنهما ناجحتان رغم تعارضهما لأن من غير المحدَّد أية نظرية منهما هي النظرية الصادقة. فبما أنه من غير المحدَّد أية نظرية منهما هي النظرية الصادقة، إذن من الطبيعي ومن المتوقع أن يكونا ناجحتين رغم اختلافهما وتعارضهما. هكذا تفسّر السوبر حداثة نجاحهما رغم تعارضهما وبذلك تكتسب قدرتها التفسيرية فمقبوليتها. تختلف السوبر حداثة عن المذهبين الواقعي واللاواقعي في العلوم. فبينما يعتبر المذهب الواقعي أن النظريات العلمية المعاصرة ناجحة لأنها صادقة، ويعتبر المذهب اللاواقعي أنها ناجحة لأنها مثلا في صراع دارويني يسمح فقط بالنظريات الناجحة أن تبقى، يؤكد مذهب السوبر حداثة أن النظريات العلمية ناجحة لأنها صادقة في أكوان ممكنة مختلفة شبيهة جداً بعالمنا الواقعي. بالنسبة إلى السوبر حداثة، لا محددية الأشياء مُحلَّلة من قبل الأكوان الممكنة، ولذا تدرس السوبر حداثة الأكوان الممكنة وتدرس عالمنا على ضوئها. مثل ذلك أن لامحددية أية نظرية علمية هي الصادقة تعني أن كل النظريات العلمية صادقة في أكوان ممكنة مختلفة شبيهة بعالمنا. هكذا تتمكن السوبر حداثة من طرح حجتها على النحوالتالي: بما أن النظريات العلمية صادقة في أكوان ممكنة متنوعة شبيهة جدا بعالمنا الواقعي، من الطبيعي إذن أن تكون النظريات العلمية ناجحة في تفسير عالمنا رغم اختلافها وتعارضها. هكذا تنجح السوبر حداثة في تفسير نجاح النظريات العلمية. بالإضافة إلى ذلك، تقدِّم السوبر مستقبلية فلسفة مختلفة عن المذهبين الواقعي واللاواقعي. بالنسبة إلى السوبر مستقبلية، التاريخ يبدأ من المستقبل. ولذا تحلّل السوبر مستقبلية المفاهيم من خلال المستقبل. مثل ذلك أنها تحلّل المعنى على أنه قرار اجتماعي في المستقبل وتحلّل الحقيقة على أنها قرار علمي في المستقبل. الآن، بما أن المعنى قرار اجتماعي في المستقبل، والمستقبل لم يتحقق كلياً في الحاضر والماضي، إذن تضمن السوبر مستقبلية البحث الدائم عن تحديد المعاني وبذلك تضمن استمرارية البحث المعرفي بدلا من إيقافه. هكذا تكتسب السوبر مستقبلية فضيلتها. وبما أن المعنى قرار اجتماعي، والقرار الاجتماعي تتخذه الجماعة، إذن المعاني عامة بين أفراد الجماعة وليست خاصة، وبذلك تضمن السوبر مستقبلية إمكانية التواصل والتفاهم بين البشر من خلال اللغة ومعانيها . هكذا تكتسب أيضاً السوبر مستقبلية فضيلة أخرى كونها تنجح في التعبير عن إمكانية التواصل والتفاهم اللغوي. من جهة أخرى، بما أن الحقيقة قرار علمي في المستقبل، إذن تضمن السوبر مستقبلية استمرارية البحث عن الحقيقة بدلاً من إيقاف عملية البحث المعرفي والعلمي.
هكذا تكتسب السوبر مستقبلية فضائلها. وبما أن العلم يطابق الواقع، إذن تنجح السوبر مستقبلية أيضاً في ربط الحقيقة بما هوواقع كما تنجح في ربطها بما هوإنساني علماً بأن الحقيقة قرار علمي، والقرار قرار إنساني. هكذا تختلف السوبر مستقبلية عن المذهبين الواقعي واللاواقعي. فبينما يربط المذهب الواقعي المعنى والحقيقة بالواقع فقط، والمذهب اللاواقعي يربطهما بالإنسان فقط، تؤكد السوبر مستقبلية على ارتباطهما بالواقع والإنسان معا. فمثلاً المعنى قرار اجتماعي، وبذلك يرتبط المعنى بالإنسان كما يرتبط بشبيه الواقع لأن العلم جزء من هذا القرار كون العلماء يشكلون جماعة. وبذلك في التحليل النهائي تكون المعاني أيضاً قرارات علمية تماماً كالحقيقة. هكذا لا فصل بين الحقيقة والمعنى. فكما أن الميادين الفكرية والإبداعية المختلفة تشكل حقلاً واحداً لا يتجزأ، كذلك الواقع من حقيقة ومعنى يشكل حقلا واحداً لا يتجزأ. وكما أن التاريخ يبدأ من المستقبل، الواقع يبدأ من الممكن. فالفلسفة كالعلم تماماً بحث في ما يمكن أن يكون، ولذا لا يتوقف البحث الفلسفي والعلمي. هنا تكمن إنسانية الإنسان؛ فإنسانيتنا قائمة في بحثنا الدائم عن تحديد المعاني والحقائق. فما نجهل يبقينا أحياء.





الرابط : http://www.hmmss.com/vb/t5733.html#post69967





تعليقات :

بندر الهزاع

حقيقة بحث شيق واستغربت مثلا ً تداخل المواقف المختلفه مثل التفسيرين الواقعي واللاواقعي مع السوبر حداثه والسوبر مستقبلية وكأنك من خلال هذا البحث .. تبين اهمية الاخير على انه التفسير الامثل والانجع لفلسفة العلوم .. هكذا قرأتها!

---اقتباس---فبعدما كانت تعتبَر نظرية نيوتن الفيزيائية صادقة بفضل نجاحها تبيّن لاحقاً أنها غير صادقة واستبدلت بنظرية أينشتاين.

الا يمكن ان اقول ان نظرية انيشتاين انطلقت من الاساس ( نظرية نيوتن )وكما هو معروف ان النظريات الثلاث لنيوتن هي من مسلمات الفيزياءلك كل الشكر والتقدير استاذ عجمي على هذا البحث المفيد.

حناين

الفلسفة وعالمها يجعلني دائما في حيرة فا فضل أن أطالعها من بعيــــد القدير / حسن عجمي كل الشكر لما أوضحته لنا هناعن الفلسفات المختلفة ولكن أحتاج وقتا اطول لأستوعب ما قرأته هنـــأ كل الشكر لمجهودك الرائـــع دمت بكل خــير

ريم الفلا

الفلسفة اللغوية تعتبر من الحركات الفلسفية المسيطرة في الفلسفة المعاصرة
فالفلسفة هي نشاط ليس لها محتوى حقيقي.... كما ذكر فيتشجنتاين...
سطور فلسفية عميقة كعمق البحر واكثر أستطيع ولا أستطيع الغوص بها
لازلنا نجهل الكثير في دوحة الفلسفة ونامل المزيد من بحوثك الجوهرية
القدير حسن عجمي
مرحباً بك في واحة الهمس .. سعدنا بإنضمامك .. وتشرفنا بنثر حروفك ..دمت ولاعدمت أيها الكريم

زهرة الياسمين

مسا الورد.... اقتباس : فالشعوب التي لا تفكر بالممكنات لاتحيا في الواقع
الممكنات هي أساس الواقع حيث انها تمكننا من المعرفة والوصول للحلول الناجحة سواء في الحاضر او المستقبل

اقتباس : من جهة أخرى، بما أن الحقيقة قرار علمي في المستقبل، إذن تضمن السوبر مستقبلية استمرارية البحث عن الحقيقة بدلاً من إيقاف عملية البحث المعرفي والعلمي. هكذا تكتسب السوبر مستقبلية فضائلها. وبما أن العلم يطابق الواقع، إذن تنجح السوبر مستقبلية أيضاً في ربط الحقيقة بما هوواقع كما تنجح في ربطها بما هوإنساني علماً بأن الحقيقة قرار علمي، والقرار قرار إنساني. هكذا تختلف السوبر مستقبلية عن المذهبين الواقعي واللاواقعي. فبينما يربط المذهب الواقعي المعنى والحقيقة بالواقع فقط، والمذهب اللاواقعي يربطهما بالإنسان فقط، تؤكد السوبر مستقبلية على ارتباطهما بالواقع والإنسان معا.
اذاً هنا فلسفة السوبر مستقبلية هي الفلسفة الوسطية لفلسفتي المذهبين الواقعي واللاواقعي ودائماً خير الأمور أوسطها
الأستاذ القدير/ حسن عجمي موضوع فلسفي نشط أدمغتنا للبحث عن المعرفة في فلسفات الأمور من حولنا فلكَ مني جزيل الشكر على موضوعك الممتع دمتَ بكل الخير.

عازف الهمس

ما فهمته من ما سبق ان الـفلسفه نظام مع ـــرفي
قائم على انتاج السؤال والـمفاهيم بمنحها القدره
على ترتيب الاشكالات الناتجة عن الـتطورالع ــلمي
السريع والمتعاظم والاج ــابةعليها وبقائها في حالة
من الفعل كنظام مع ــرفي قادر على ايج ــاد الحلول
ووضعها ضمن سياق مح ـــدد
استاذنا / حسن عجمي
موضوع ضج بأوتار
الـدماغ اهلا وسهلا بك وبع ــقلك الاستثنائي